Tuesday, October 9, 2012

--- 1 ---


وعاشوا في سبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات!!

من هنا تبدأ قصتي،
 ولا تندهشوا من هذه البداية التي لن أطيل عليكم قبل أن أبدأ بسرد تفاصيلها، ولقد رغبت أن أبدأها من حيث يجب ان تنتهي القصص عادة، ولعلمكم لن تكون هذه النهاية المتوقعة هي ما سيرد هنا، لكني بدأت بها لأن في هذه البداية "النهاية" تكمن كل التفاصيل القادمة، فتلك العبارة لطالما شغلتني أو لنقل انه شغلني تفادي الوصول إليها، ولابد انك ستكتشف من كلامي كم كرهت تلك اللحظة التي كانت تنتهي بها القصص التي كانت تروى علينا، ولعلمكم، لم تكن الحال كذلك في بداية الأمر، كانت النهاية تعني تلك الرعشة التي تنتفض من داخلي، وتقشعر لها خلايا جسدي المنكمش، ولكنه التكرار، التكرار في رواية القصة ذاتها، كل ليلة، يجعلك تبحث عن المتعة في التفاصيل، في خفايا القصة الغير مروية، فالنهاية الحتمية للثبات والنبات، لم تعد هي الهدف، وستصبح تلك العبارة دوماً نهاية المتعة الفائقة لسماع تلك القصص المتوارثة والتي اندثرت، ولكن لابأس، المبدأ لن يتغير، القضية هي في المتعة التي تحصل عليها، ولا يهم الطريقة، الهدف ان تتمتع، وان تتمتع قدر الامكان، ولن اخفي عليك منذ الأن أنه سيكون الموت الرحيم هو النهاية المتوقعة لقصتي بدلا عن الثبات والنبات، ففي قرار طريقة موتي سيكون لذلك متعة ان أحرم الاخرين من انتظار موتي، وأنا كلي إدراك بأن كل تلك المحاولات لن تثبت أن قضية المتعة والاطالة في سريانها أصبح الهدف الأكثر إلحاحاً في التاريخ البشري الحالي، ولكنها محاولات ستقربني من اكتشاف أكثر جوانب غموض هذه النفس البشرية!.

مقدمة كالتي سبق تجعلني اقع في متاهة التعريفات، والمصطلحات، وأشعر بي كمحاور يريد ان يقنع الأخر برأيه، وبأقل زمن ممكن، فلا يجد وسيلة سوى اطلاق النار على رأسه!! ثم لا يتباطآ في أن يسأله بسذاجة هل لاتزال حياً ترزق؟ كنت اريدك ان تقتنع، لم يكن موتك هدفي، لكني لم اجد طريقة لأقناعك سوى موتك!!
ولا تتوقع مني الأن أن أكرر عليك السؤال "هل لاتزال حياً ترزق؟" سيكون من السذاجة لو فعلت، وسأطلب منك، ان تصحو من موتك الأن، ودعني أخبرك بقية القصة، فنحن لم نزل في مكمن الطفولة البعيد عن مساحات الموت، ولدينا الكثير من الوقت والكلام لنصل لتلك اللحظات، إلا إذا تدخلت الاقدار عكس ارادتنا وجعلت الموت اقرب مما نود لهذه الحكاية ان تطول!!!!


--- 2 ---

Monday, October 8, 2012

--- 2 ---

أربعين عاما قد مرت إلى الأن من حكايتي التي سأرويها، ليست افضل السنين ولا أسوأها، لكنها مرت بفعل القانون الطبيعي للحياة، الزمن لا يتوقف، الحياة مستمرة، ولم يكن يخطر لي بعد كل تلك السنين، ان أعود للمنزل لأجدها جالسة على جانب سريري، كعادتها، تلك لحظة يمكن ان احكيها لكم، وأوكد أنها لحظة لن تمر في حياة الكثيرين، فمنذ لقائي الاول بها، وهو يوم لن انساه من طفولتي، تلك الطفولة التي اختفت مع لقائي بها، حينها، كان يمكن لي ان اصدق كل تلك الخرافات والروايات التي سمعتها، ولابد أن الخوف كان هو الشعور الاكثر ازدحاما عند المرور على تلك التفاصيل المرعبة لوحوش وأرواح ميتة وكل الشخصيات الخرافية التي امتلأت بها قصص طفولة تلك، لكن أوكد لكم إنها لم تكن تشبه اي من الشخصيات الخرافية التي يمكن ان تتخيلوها، كانت رقيقة، ناعمة شفافة، مبتسمة، من ذلك النوع الذي لاتستيطع ان تنظر طويلا إلى عينيه، دون ان تغمض عينيك في محاولة لاسترجاع ما رأيته قبل لحظات، ولن أنسى ابدا، كيف إني كنت في حالة ذهول، ولكن لم يراودني اي شعور بالخوف، بل كانت تجذبني تلك الهالة التي تنبعث من حولها لأقترب إليها، اذكر كيف اخترقت يدي تلك الهالة دون ان تصدم بشي، كنت كمن يحرك يده في بركة ماء، تشعر بشعور ثقيل لكن لاشي يحد من حركة يدك، كنت مندهشا من ذلك الجسد الشفاف، الذي لا قوام له، لكنه موجود، أردت ان اصرخ يومها، لا لسبب، إلا لأني شعرت برغبة كبيرة في الصراخ، لكن نظرة واحدة إلى عينيها من جديد جعلتني اشعر بالهدوء والسكينة، بدت يومها شابة، لايمكن ان اعرف عمرها، فلم يكن لدي الخبرة الكافية في تقدير الأعمار، لكنها لم تكن كبيرة كأم ولا صغيرة كطفلة، كانت في تلك السن ما بعد المراهقة وفي عمر النضوج، لكن هذا لم يعني لي شيئا كطفل قرر فجأة ان يغادر الغرفة في تلك اللحظة ويركض في الشارع كهارب مجنون، ركضت إلى ان توقفت انفاسي من شدة التعب، وجلست إلى جانب الطريق، محاولا أن لا أفكر فيما جرى لي قبل قليل!! لا أذكر كل ما جرى في رأسي من افكار حينها، ربما لأني كنت مجرد طفل يعجز عن التفكير والتحليل، لكني اذكر جيداً في تلك الليلة أن فضولي كان اكبر من أفكاري الخائفة المترددة، وأذكر بأني لم اتفاجأ عندما عدت لأجد أنها لم تزل هناك، وكان شعورا قوياً بالطمأنينة يجتاحني، كأني اعرفها منذ سنين طويلة، كانت تجلس على جانب سريري، بينما كنت اتحرك انا كمجنون يحاول ان يجذب انتباهها، بينما كانت تستمر هي متنقلة بنظراتها لتلاحق تحركاتي، دون ان تنبس ببنت شفة، لا ادري كيف انتهت تلك الليلة بي نائما، بينما اشعر بيدها تمسح على رأسي، نمت يومها نوما عميقا كطفل ينام في حضن امه! شعورا بالدفء والحنان كان يطوف من حولي، ولم يكن الصباح كما عهدته مزعجا في اليوم التالي، فقد استيقظت اكثر نشاطا مما تعودت، وبدت على وجهي ابتسامة جديدة، وحتى اني يومها وقفت طويلا امام المرأة امشط شعري، مجرباً أكثر من تسريحة لشعري، كان طفلا قد أختفي من حياتي، وبدوت شخصاً أخر ستبدأ معاناته مع الأخرين في وقت مبكر من حياته الطويلة، لم يثنه شيء عن ان يكون هو نفسه، محاولا ان لا يخسر تلك الابتسامة التي طبعتها على وجه تلك الفاتنة الشفافة التي دخلت حياته فجأة ولم تغادرها إلا في ظروف معقدة ساءت حياته بعدها، ستكون تلك حكاية لابد من سردها كاملة في وقتها. 

--- 3 ---


سنين مرت منذ لقائنا الاخير!!!
كنت اظن انك لن تعودي هذه المرة، ايتها الشقية الفاتنة، لا افهم كيف لا يتغير عمرك، كيف لا تكبرين، وانا قد غزا الشيب شعري، وبدت ملامحي اكبر من عمري، لم تزل ابتسامتك على وجهك، وعيونك المتسعة بلونها الاسود، وتلك الهالة التي لا تنضب من حولك، من أين لك كل هذه الطاقة التي تشع نورا بدون نهاية، ايتها الروح الطاهرة البريئة كطفلة، الناصعة كجبل من الثلج، إن لحرارة يديك أثر لا يمكن ان ينساه من لامسهما، وإنك تعلمين اي ضياع عشته منذ ان فارقت نظراتك الفراغ المحيط بي من كل جانب، فهل عدت لتكتشفي الضياع الذي اعيشه كخبز حياتي اليومي، ام لعلك تأملين اني قد اكتشفت سر السعادة الذي طالما كنت أتوقع منك ان تقودينه إلي أو تقوديني إليه!!

 لابد إن قراءة ماسبق من الكلمات جعلتكم تفكرون بي، فالبعض بدأ يعتقد أني مجرد مجنون أخر في هذا العالم المليء بالمجانين!!، وأخرون يصدقوني لكنهم في حيرة من امرهم و يتساءلون كيف اختارتني تلك الجنية، ولابد ان الفضول بدأ يثير مخيلة الكثيرين منكم، وأنا أشتم روائح الحسد أيضا عند بعضكم، فمن لا يحسد فتى قد قابل جنيته الجميلة وإن كانت شفافة لدرجة يصعب رؤيتها، ولأصدقكم القول في البداية حتى انا حسدت نفسي على تلك الحالة التي وقعت بها، وقد كنت بدأت ارسم صورة مشرقة للحياة التي سأعيشها، وبدأت الحدود تختفي من خططي للمستقبل في خيالاتي، فكيف لا تكون كذلك وانا ارى كل ذلك البهاء والاشراق في عيني تلك الجنية التي كانت هناك دوما لتنظر إلي وتبتسم، ولم يكن سريري الصغير يتسع لكلانا لولا انها كانت تدع لي المساحة الاكبر من السرير وتكتفي لها بجزء ضئيل لايكفي لجسدها الممتلئ وهو شيء لم أنتبه له في البداية، فهي لم تكن نحيفة كما تتخيلون الفتيات الجميلات، كانت ممتلئة بشكل ملفت، لكن برشاقة جنية، تتحرك بقوة لكن بكثير من الليونة، ولا تخلو حركتها من غنج البنات، لم يكن يهم حجم السرير، او حجم اي مكان تتواجد به، فليس للأبعاد معنى عندما تتحدث عن جنية، كل الامكنة تتسع لها، وليس لدى الامكنة من شكوى لوجودها فيه.

 لابد اني كنت في حالة فوضى وليست كلمة مشوش كافية لوصف حالة الفوضى العقلية التي حاولت جاهدا من تجاوزها في ايجاد طريقة للتعامل مع قضية الوجود المادي لها، فهي ليست موجودة مادياً!!، لكنها موجودة في ذات الوقت!!، نظرتها تزن قنطار، ابتسامتها لا تكفي السماء الصافية بعرضها لتتسع لها، كل ذلك البهاء الذي ينتشر في المكان، يجعل من الهواء اثقل فتشعر بنفسك اخف مما كنت عليه حتى لتظن انك قادر على الطيران وبأن الجاذبية قد اختفت من تحتك، وبدأت تنتشر قضايا كثيرة محيرة من حولي مع مرور كل لحظة، فأسئلة تبدأ ولم تكن تنتهي مع وجود تلك المخلوقة ولا أدري لو يصح ان نطلق عليها تسمية المخلوقة، حتى إني لم اكن اعرف كيف اصنفها ضمن ما أعرفه في الحياة، كنت أريد ان أسأل احدا ما عنها، لكه هذا يتوجب علي ان اخبر الأخرين بقصتي، أبناء الجيران، او ربما أصدقائي في المدرسة، لا!!!، كنت اشعر بأنهم أصغر سنا وأسخف من أن يصدقوني، ها أنتم تلامسون كيف بدأت أشعر بالفوقية على أقراني، لعل قصتي ستجعلني سخرية لهم ولن يتوقفوا عن الاستهزاء بي، كنت حائرا في أنه لابد لي ان اخبر أحدا كبيرا لدرجة يفهم مالذي جرى معي، كنت بحاجة لمن يقول لي كيف أتعامل مع هذه الجنية التي اخترقت حياتي دون حتى ان تسألني عن رأي، بالطبع كنت سأوافق لو سألتني ذلك، فليس من نقاش حول هذا، لكني حينها كنت حاولت جهدي ان استعد نفسيا، أن أقرأ بعض الكتب، اسأل من قد يجيبني، فلم يكن هناك من خوف من ان يكتشف احداً قصتي وقتها، لكن بعد أن اصبحت هنا تجلس في غرفتي الصغيرة، لن يكون من السهل الافشاء بهذا السر، ولن يتوقف عقلي عن التفكير، لا ادري كيف لي ان اصف لكم تلك الحالة التي كنت بها؟ ربما لو تواجهون جنية مثلي قد تعرفون لماذا ابقيتها سراً لم ابح به في حياتي لأحد! 



--- 4 ---


كل تلك السنين مرت، وها أنت تضحكين من جديد على حركاتي العبثية في حضورك المربك، كأنك تعلمين اني لم ازل ذلك الطفل المرتبك الذي لم يكبر يوما، أعرف انك قادرة على قراءة أفكاري، وأنه لا يمكنني ان اخفي عنك أنني بقدر ما تفاجئت لرؤيتك بقدر ما اجتاحني في نفس الوقت شعور بالقلق خشية ان تكوني رأيتِ صور زوجتي السابقة التي للمرة الأولى اشعر بالندم لحظتها لأني لم انزلها عن جدران البيت من قبل، تعرفين اني كنت اريد أن ازيل تلك الصور منذ انفصلنا ورحلت عني، ولكني لسبب لا اعرفه تركت تلك الصور!، قد يكون مجرد كسل، او مجرد رفض لفكرة بقائي وحيدا منذ زمن، أعلم انك ترين عيوني المتنقلة بينك وبين صورتها التي كانت تقبع خلفك تماماً، لكن ابتسامتك اشعرتني بفشل اي محاولة لإخفاء حالتي تلك، استسلمت أخيرا لفكرة عودتك، ولفكرة انك تعرفين بأني زوج سابق لزوجة سابقة لم تزل صورها في المكان! وربما ارتحت قليلا عندما تذكرت انك لست من النوع الذي يشمت بالأخرين، وأنك بالتأكيد ستجدين لي كل الاعذار لما آلت عليه حالتي، ابتسامتك لم تتغير!!، لازلت تنشرين الأمان في المكان حيث تحلين، لا أظنه من المنطقي ان اخفي عنك شيء مثل طلاقي، فأنت تعلمين اني فاشل في العلاقات الانسانية، ولربما يكون هذا واحد من أسباب تواجدك في حياتي، فأنا أنفع صديقا مخلصا لجنية، لكن البشر والعلاقة معهم كانت دوما قضية شائكة لم يسهل لي التعامل معها، ولعل وجودك في حياتي قد عوضني الكثير عنهم، لكنه لم يسهل علي التوصل إلى حل لتلك الاشكاليات،

 لا أشك بأنك تذكرين ذلك اليوم الذي عدت فيه لأحدثك عن تلك الفتاة التي أيقظت لأول مرة مشاعر الحب عندي، كيف لك ان تنسي ساعات وساعات وانا أقص عليك تفاصيل لا تنتهي عنها، رغم ان لقاءاتي اليومية بها لم تكن تتجاوز دقائق معدودة حين يتقاطع طريق مدرستي مع طريق مدرستها، قصص بالساعات مع أنه لو جمعت كل الدقائق التي رأيتها فيها ما كانت لتتجاوز نصف ساعة من الزمن، ولكنك تعرفين مقدرة الانسان ان يخلق من تلك الدقائق حياة كاملة يقصها ويتلوها ويعيدها كأنه يجتر الدقائق في حالة لانهائية ليصنع منها عمر كامل تملئه التفاصيل الدقيقة، أتذكرين حين عدت إلى البيت وانا أضحك بحالة هستيرية بسبب تلك الفتاة؟ ورغم انك كنت قادرة على قراءة افكاري حينها لكني اظن أنك عجزت عن فهم تلك الافكار، حاولت كثيراً أن اشرح لك اني سعيد حد الجنون، لأني رأيت يومها احد اصدقائي يتقدم باتجاهها ليقدم له وردة حمراء، فما كان منها إلا ان امسكت الوردة وداست عليها بقدمها الصغيرة ذات الحذاء المدرسي الاسود، يومها بدا لي ان ذلك الحذاء لا يزيد سوادا عن قلبها، ضحكت يومها لأني كنت افكر جديا ان اقدم لها وردة حمراء، وكانت تشغلني فكرة كيف سترد على وردتي تلك، وكيف ستبتسم لي، وكم من الوقت ستحتفظ بها قبل ان تجففها بدفتر من دفاترها المدرسية، لكن ذلك الصديق استبق خطوتي بشجاعة لم اكن املكها، ولا أظنه خسر تلك الشجاعة رغم أنها سحقت وردته الحمراء وجعلتها هباء منثوراً تحت قدمها، لم تكن الوردة هي التي تحطمت، كان قلب ذلك الفتى الشجاع اكثر مني، لم يكن الحب ومأساته هي ما تعلمته في ذلك اليوم، فلقد رأيت في عينيك دهشة من فكرتي التي لم ابح بها، لكني زرعتها في رأسي المليء بالأفكار الخائبة، "الشجعان يتلقون اول الضربات و أشدها قساوة!! "، لم تعلمني تلك الفتاة شيئا عن الحب، لكنها بالتأكيد علمتني اهم الدروس عن النفس البشرية المعقدة،

 أعرف انك تذكرين أني اخبرتك درسا اخر تعلمته عن الحب يومها، وأعرف أنه من الصعب ان تنسي مثلي تماما، تلك اللحظة التي توقفت فيها عن الضحك لأعلن لك: "إن الحب هو مصدر الحكمة في الكون!! ولكن سيكون عتياً حتى على الحكماء تفكيك طلاسمه!!"، ولابد أنك عرفتني اكثر من نفسي وعرفت أنني بدلا من اكتساب الحكمة تحولت تجربة الحب الأولى لدي إلى شعور بالفراغ واللامبالاة، كمن قرر ان القضية لا تعنيه، فأصبح في منأى عن الحب، ولنقل عن الحياة، فأنا كان لدي أنت، الجنية التي لن تغدر بي، ولن تفتك بوردتي التي لم اهديها لها، ستكونين وفية وقادرة دوماً على أن تبثي مشاعر الطمأنينة في داخلي كما لم تفعل كل النساء اللواتي ضممتهن في حياتي، فالحاجة للمرأة هي حاجة الرجل إلى العودة إلى ذلك المكان السحيق من الامان الذي أحاط به في رحم امه يوماً، حيث لن يعرف بعد لحظة ولادته تلك ذلك الشعور ابداً، وإن دأب كل حياته ليلتقط ذلك الشعور ثانية، لكنه سيكون من العبث ان يظن ان امرأة ما هي التي ستحمل له ذلك الشعور دون غيرها، وسيكون من العبث ان يجرب حضن كل النساء، في مسعى حثيث ليجد نفسه ثانية في رحم أمه، ولن تقبل كل نساء العالم ان تكون بديلا لأمه التي أطلقته في الحياة وهي تدعو له ان يجد المرأة الأم ثانية، إنها حلقة مفرغة من ايجاد الحب وفقدانه، ستتكرر، إلى حين يعود إلى الحضن الاكثر أمانا والأطول استقراراً من كل ماسبق وعاشه في الحياة، إلى رحم الارض الذي لا يلفظ ساكنيه بل يمتصهم رويدا رويدا في مسعى لانهائي لخلق مكونات الحياة الازلية من جديد، واعادة بث الروح في ازهار ستنبت فوق قبره.!!!


--- 5 ---

عجيبا هو أمرك أيتها الجنية!! من اي فصلية من الجن أنت، ألا تملين هذياني؟ ألم تتعبي مني؟، لماذا عدت؟؟؟ ، ألم تملي كل تلك الانكسارات التي شاهدتيها على وجهي على مر السنين، ألم يكن من الافضل ان نصحتني بالتوقف عن السعي وراء تلك الخيبات يوما بعد أخر، أكل الجنيات مثلك؟ ما الذي تخبرينه لهم عني في لقاءاتك بهن؟؟ أتتحدثون عن اي فاشل ترافقين!، أم لعلك تخفين الحقيقة كي لا تظهري بمظهر يشابه مظهري بملامحه المزرية هذه، أم انكم في عالم الجن لا تتناقلون الأخبار والأحداث، أنتم فقط تعلمونها، أي حكمة منحكم الرب؟ هذا سؤال لن انفك اسأله لنفسي، فأنا لن اسألك عنه وكل دراية بأنك لن تجيبي عليه، ولنقل انك لم تجيبي ابدا على اي سؤال طرحته عليك، أتعتقدين إن ذلك لم يكن يغيظني؟؟ أو كانت متعتك الوحيدة هي اغاظتي؟؟؟ هل كان علي ان افهم لغة وتعبيرات وجهك لأتمكن من الحديث معك كل تلك السنين، الابتسامة تعني الرضى، عقد الحاجبين يعني الرفض، الاشاحة بالوجه تعني عدم الاهتمام، زم الشفتين!!! رفع أحد الحاجبين!، قلب الشفة السفلى!، العض على الشفة العليا، وألاف الحركات والتعبيرات، لغة طالما مكني تعلمها من عدم الاكتراث بالحديث مع الكثيرين فلماذا احدثهم طالما انا قادر على الغوص في خبايا نفوسهم بقراءة تلك الوجوه التي يحملونها، لم اتدرب كثيرا لكي تصبح النظرة الاولى إلى اي شخص كان هي مفتاح شخصيته، ووضع الخوارزمية الكاملة للتعامل معه، لربما كانت النظرة الاولى عندكم تعني احساسكم تجاه الاخرين، بينما تعلمت انا ان تكون النظرة الاولى هي معرفة كاملة بالنسبة لي، تعلمت كيف أقراها كبطاقة كتب عليها الكثير من المعلومات، ليست تلك بنعمة نتحدث بها، ولن تكون ميزة للافتخار، إن الفضول يشكل اهم اسباب التخاطب الانساني والتعاطي بين البشر بمختلف اجناسهم، ولن تكتشف الاخر دون ان تحدثه وتختبره، وتختبر مشاعره تجاه ما تقول او تفعل، ولابد من التفاعل الانساني للوصول إلى حالة من التواصل مع الاخرين، لكني فقدت كل ذلك بسببك ايتها الجنية، علمتني كيف اقرأ الناس حتى دون ان انظر نظرة ثانية لوجوههم، كانت تلك نعمة تصطف في مصافي النقمات، في البداية كنت استمتع بها، كلما دخلت مكانا عاما، ابدأ بالنظر من حولي، احاول ان أقرأ افكار من يتواجدون في ذلك المكان، من هو السعيد ومن هو التعيس، من يجلس مع زوجته، ومن هو الجالس مع صديقته، من يتخذ القرار، ومن يعجز حتى عن التفكر بأجوبة لأسئلة تطرح عليه، صورة وجوهم تعبيراتهم، كلها افكار تجتمع في رأسي، وكلما زاد العدد كنت اتحدى نفسي في محاولة لجمع اكثر التعبيرات، وقراءتها، وتمر الساعة بعد الساعة وانا جالس أراقب الناس غارق بيني وبين نفسي، والاخرون من حولي، يعيشون حياتهم، يتكلمون ويعبّرون عن نفسهم، ربما هم ضائعون، أو خاسرون، لكنهم يملكون الوقت ليعيشوا حياتهم التي اضيع أنا وقتي في مراقبتها،

 أعرف انك ستقولين لي انه خطأي، فأنت علمتني المقدرة بينما تهت انا في استخدامها، المقدرة في قراء الاخرين، في فهم افكارهم، مقدرة يتمناها الناس، ولن يتوانوا في الاستفادة منها، لكن ألم يكن هناك ما يغيب في تلك المقدرة، ألم اخبرك دوماً إنه ينقصني الهدف في الحياة لكي استفيد من تلك المقدرات؟

 الحياة بحاجة لأهداف نبحث عنها؟، تلك كانت فكرتي التي طالما رددتها على مسامعك، لم تكوني مكترثة بتلك الفكرة، كنت تشيحين بنظرك كلما وردت تلك الكلمة "الأهداف"، أوقعتني في حيرة معقدة، اظن إني لم افك طلاسمها حتى اليوم، حتى حين بدأت افهم الحياة بدون اهداف وبدون تلك التعقيدات المرتبطة بالأكوان وبالخالق والخلق، أستمرت قضية الحياة بدون هدف تصنع مني مجرد قزم امام شجرة لا يقوى على التفكير في تسلقها، لكنه قزم عنيد، لن يعترف بفشله وضياعه، كما لن يعترف بخوفه، وستبقى الشجرة تقف في طريق حياته، التي كنت تصرين بنظراتك الثابتة، معلنة أن مفتاح الحل بيدي، انا القزم، وانا أمام الشجرة، وانا في موقع الاحداث، أنا كل ما هو عليه، و أنت فقط تحدقين بي بنظرة لا تملك من الافكار غير أن التجربة هي مفتاح الحل، لايكفي أن تملك الجواب للمسألة، عليك ان تجرب الحل، عليك ان تختبره بنفسك، أن تعيشه، تتحداه في كونك تسير على درب انت رسمتها، وبدون تلك المحاولات لن تعرف ابدا إن كنت مصيبا او مخطئا، ولعل الندم سيكون هو الشعور الاكثر انتشارا في خلايا رأسك المتعب في الأخر إن لم تعش متعة تلك التجربة التي قررت لنفسك عدم جدوى الخوض بغمارها!! هل تعلمت الدرس الخطأ، هل اكتفيت بالأجوبة وابتعدت عن الحياة، سؤال تجيب عليه الحالة التي تمر بي يوم بعد اخر، بين متخبط في الفراغ، وفارغ من السعادة، كما تفرغ جعبتي من الاحزان! 

--- 6 ---

 لعلمك كان ذلك يوم جنوني في حياتي، حين قررت أن أفعل الشيء الوحيد الذي عملت جاهدا وطويلا أن اتحاشاه، كي لا افقدك، كنت أعلم انك ستغادرين حين ستدخل اول امرأة حياتي، كانت تلك قضية اكتشفتها منذ أن رأيت نظراتك تجاه بنات الجيران اللواتي كن يقدمن احياناً لمنزلي، لم نكن سوى مجرد مراهقين، لكن في عينيك كانوا شيء أخر، ليسوا منافسين لك بالتأكيد، فمن أين لأولئك البسطاء أن يقارنوا بجنية مثلك، لم أفهمك صراحة ، لم يكن من السهل فهم تلك الخصلة من الغيرة عند النساء، مع العلم اني لم افهم كيف يمكن لجنية ان تصنف من ضمن النساء، وانت تدركين ان تلك الغيرة بداخلك جعلتني أبعد البنات عن منزلي، كما إنها أشعلت الغيرة في داخلي، أو لنسمه الخوف، من بقية الأولاد الذكور، لقد بدأت أخاف ان تتركيني إن أعجبك أحد هؤلاء الأولاد، كانت معضلة بالنسبة لي، تغارين من البنات، وأغار انا من الصبيان، هل كتب علي ان اعيش تلك الحالة التي تشبه حالة الازواج، الغيرة!! سريعا خرجت من متاهة الغيرة، وكان علي أن أتعلم أن الغيرة ليست سوى انعدام لثقتنا بنفسنا، أو انعدام لثقتنا بالطرف الأخر، إنها صورة تعكس خوفنا من الفقدان، فقدان ما نملك، وقد يكون الحب هو اغلى ما نملك في الحياة، تلك التجربة، لن انساها، كما لا ينسى طفل لحظة تعلم ركوب الدراجة، لحظة يخلق توازنه بنفسه، فيصبح حراً ، قادرا على الحركة بدون ان يخاف الوقوع، كان ذلك الدرس الذي علمتني اياه، كلفني خسارة صداقتي لأولاد حارتنا، اصدقاء المدرسة، أبعدتهم جميعاً عنك، بكل ما استطعت من قوة، وبالنهاية تبين أني أبعدهم عني، عني أنا، فأنت لست مرئية بالنسبة لهم، لست سوى جنية شفافة، قادرة على إغاظتي، لكنهم ليسوا قادرين على ذلك، خسرتهم لأكسبك، ولازلت اقدر الدرس الذي تعلمته باكرا، تعلمت أن لا اضحي بالكل مقابل الواحد، فلا الواحد يكفي ولا الكل قابل للخسارة، كان علي أن أوقف الغيرة من داخلي، أوقفها كي اقلل خساراتي التي قد تأتي فيما بعد! 

هكذا انت، جنية!!! جنية استطاعت أن تنزع الغيرة من قلبي، كنت فرحا بذلك، نعم، شكرتك يومها ولا بد اني كنت اقدر لك ذلك الصنيع، كنت مقتنعا بأن البشر بحاجة للقضاء على الكثير من المشاعر والاحاسيس في شخصيتهم، على البشر ان يتطوروا ليكونوا في مصافي الآلهة، ذلك حلم كنت افكر به، كلما نظرت إلى عينيك، فطالما انك موجودة فلابد من طريقة لصنع من هم مثلك، لست انت فريدة من نوعك، إن البشر ليسوا أقل مقدرة من الجن، هكذا كانت الافكار تنساب دوما، لقد كان لديك طريقة فذة في دفع الافكار إلى رأسي، قد تكون عبارة " كنت ملهمة لي" هي الوصف الأدق لتلك الحالة التي كانت تجتاحني ساعات وساعات، لم تكن الافكار مجردة، كان يسهل ان يعاد تشكيلي مع تلك الافكار، صدقيني إن فكرة مثل الغيرة اختفت من حياتي، وتحولت إلى ذلك الشخص الذي يتعامى عن رؤية تلك الناحية من البشر، شخص وهب الثقة لكل من تعامل معه ثقة عمياء، تعلمت أن اقول للأخر أنك افضل ما حصل لي إلى أن يثبت العكس، لكنك بالتأكيد كنت على علم بما سألاقيه، كنت تعلمين كم هو عجيب أمر البشر، لا يتقبلون تلك الثقة، البشر لا يؤمنون بالإخلاص، كان لابد لمئات الانبياء ان يقدموا من السماء إلى هذه الارض ليعلنوا ان الاخلاص هو طريق الخلاص، ومن سخرية القدر أنه كان عليهم ان يموتوا بغدر على يد من أتبعوهم في كثير من الاحيان.

 أعرف أنك كنت غاضبة مني، كنت بحاجة للتحرر منك، وكيف يتحرر الانسان من قيوده بدون أن يحطمها، القيود لا تنزع بسهولة ، لا تنزع، على الانسان ان يحطمها، وعليه ان يحطمها بنفسه، لن يكون هناك من يحطمها له، ولا تختلف الطريقة مهما اختلفت القيود، على كل انسان ان يحارب قيوده الخاصة، الخوف، الفقر، الجهل، كلها قيود، وليس قيد الخضوع لامرأة متسلطة أقل هولاً من قيود حاكم ظالم، كنت بحاجة لأتحرر منك، لأنطلق في عالم اكثر انسانية وبشرية، أعلم أنك سخرت مني، لأني اخترت العالم السفلي بالنسبة لك، فضلت الادنى على الاسمى، لكن شعورا قاتلا كان يشدني إلى ذلك العالم البعيد عنك، لم يكن يهمني ماهو، بقدر ماكان يعني الابتعاد عنك، كنت اسعى بكل طاقتي للانغماس في كل ما يبعدني عن الكمال، عن الصورة النقية التي تظهرني شفافا امام مرآة، كنت أريد أن أرى لطخات من الانسانية وعارها على وجهي، وأين يكمن العار بالنسبة لي وانا لم اتجاوز الثامنة عشرة من عمري، أين يكمن العار في هذا المجتمع، الذي تعد الرجولة اساس نبله، بينما تختبئ نساؤه خوفاُ عليهن من قصص العار القبيحة التي يتداولها الرجال طوال الوقت، لم يكن صعبا أن أجد العار هنا، العار موجود خلف كل البيوت، لكنه يدعون أنه محمي بنبل الرجولة، قضية العار، والشرف، ستكون محور سنين عشتها، بين احضان تلك العاهرة، ولا أقول "عاهرة" بالمعنى الذي يتراءى للجميع عند ذكر تلك الكلمة، أني أقولها فقط لأصف ماكان عليه عملها، فالعهر هو حالة أبعد ما يكون عن ممارسة الجنس بهدف الحصول على المال، العهر هو ان تسمى من يمنحك المتعة الجنسية عاهرة، بينما انت تدفع لها مقابل ان تمنحك تلك المتعة، هي تأخذ مالك لتعيش، وانت تمنحها المال لتستمع، هي بحاجة مالك لتعيش وانت بحاجة ما تمنحك للمتعة، فتوقف عن وصفها بالعاهرة، وأبدأ بإظهار بعض الاحترام لما تقدمه لك من خدمات، فلا مجال للمقارنة بين من هو مستعد للنزول إلى ذلك الدرك الأسفل فقط من اجل لقمة العيش، بيمنا تنزل أنت إلى ذلك الدرك الاسفل من اجل متعتك، العهر له من كل باب أبواب، ومن كل فصل فصول، ولم تكن جميلة وهو اسمها، عاهرة، ولسوء حظها لم تكن جميلة ايضا، قالت لي يومها لو كانت جميلة كاسمها ربما لم تضطر للعمل في تلك المهنة، ضحكت يومها، وكانت اول مرة اضحك من حديث امرأة بدون سبب، بدون هدف، بدون مجاملة، يومها ذكرتني بكل الفقراء!! الفقراء، يسمحون لك الدخول إلى قلوبهم وروحهم دون استئذان، بسطاء، يلتحفون السماء كما يفترشون الارض، تلك هي جميلة، يومها عدت إلى المنزل، لأرى في المرآة تلك اللطخات التي تركتها جميلة على خدودي، وعلى شفتي، الكثير من البقع التي لم اعرف سببها، اعتقدت أن المرآة بحاجة إلى تنظيف يومها، كنت اهم بالبحث عن ما يفيد في تنظيفها، حين التفت حولي لأجد ان شيئا ما قد اختفى من غرفتي، لم تكن جنيتي بهالتها المعهودة في الغرفة، سنين مرت على وجودها وكانت تلك اول مرة افكر بأنه لم يكن لديها اسم، لم اكن اعرف اسمها، اردت أن أصرخ مناديا!! تلفتت حولي مثل المجانين، رفعت كل الاشياء من مكانها، غيرت مكان الكرسي ، الطاولة الصغيرة، قلبت اغطية السرير، كنت في حالة هستيرية، استفقت منها بعد ساعات، استفقت منها بحالة لم اكن أحسبها ستكون مريحة، كان لحظة من الشعور باختفاء ثقل كبير، إنه القيد، لقد انكسر القيد، انتهت تلك السنوات من وجود تلك الجنية في حياتي، في سيطرتها على كل نفس تنفسته، أصبحت حراً، حراً, أخيرا!!

--- 7 ----.

--- 7 ---

 يوم ألتقيت بجميلة، كان ذلك يوم فقدتك لأول مرة ايتها الجنية العزيزة، لا تبتسمين بخبث على كلمة "عزيزة"، فأنت تعلمين مقدار ما أعزك، نعم، لم يكن هروبي منك يومها كرها فيك، بقدر ماكان حبا في ان اعيش لحظة حرية، حرية اصنعها بنفسي، صحيح اني اعترف لك بأنك كنت السبب في الكثير من الاشياء السعيدة التي حدثت في حياتي، وانك كنت وراء الكثير مما تعلمته واستطعت بواسطته الغوص في اعماق سعادة لا توصف، لكن لا أخفيك ان تجربة الهرب إلى احضان عاهرة، كانت تستحق التجربة، ولم اكن يومها أعلم انك لن تكوني قادرة على البقاء في حال وجدت امرأة ثانية بحياتي، كنت فريدة من نوعك، ولا تقبلين ان يكون لك ند، تتمسكين بفردانيتك كما اتمسك انا بغبائي ككائن بشري، تسهل القرارات في حياتك كجنية تملك من الوقت والحكمة مايكفيها لتكون قادرة على التعاطي مع حالات لايمكن احصائها، بينما أنا البشري الهزيل، الذي تكلفه التجربة الكثير من ايام حياته، والأكثر من نفسه ومشاعره، البشري عليه ان يدفع كثيراً ليتعلم القليل، وفي تلك الحياة يكون مقدرا عليه ان يجرب، لا ان يعيش، وسيكون من المختصر ان نعرف حياة الانسان بمجموعة التجارب التي يخوضها، ولن يكون عليه ان يفكر بعدها بعيش تلك الحياة، إنه يجرب الحياة، لكنه لن يكون لديه ابدا الوقت الكافي لكي يحيا نتائج تلك التجارب التي تعلمها، ليست سعادته أو شقاءه في الحياة هو ما يهمني هنا، السعادة والشقاء هما الطبقة التي تغلف مجرى حياتنا وتصبغه كما تصبغ الألوان الأزهار والورود، لكنها حتما ليست كل الوردة، ولم تكن الزهرة يوماً مجرد ذلك اللون الزاهي، فستكون هناك حياة اخرى خلف لونها القوس قزحي، لا يخفى على من يبحث عنه بدأب وسيكتشف تلك المتعة التي تحيياها تلك الزهور الضئيلة في حجمها، والتي ستقول لك دوما: "أعبر الطريق بينما أنا سأبقى هنا دوما إلى جانب الطرقات، وسأعود لأَضيء لك الدرب مع بداية كل ربيع!" 

 أعرف انك تستمعين لي في دفاعي عن جميلة، وعن تلك الأوقات التي قضيتها معها، بينما تساورك تلك الأفكار حولي وكيف أني أستقتل في الدفاع عن نفسي خاطئا أو مصيباً، لا أتردد في سرد العبارات والجمل بطريقة تناسبني، كنت أعلم انك دوما ما تكشفين ألعابي الكلامية تلك، لكني كنت وفي كل مرة أحاول التغلب على نظراتك بالمزيد من المزايدات وإطلاق الحجج المقنعة في رأي وبخاصة لمن ليس لديه المقدرة الكافية على كشف خداعي، أمارس ألعابي الكلامية كساحر يمارس ألعاب الخفة، فقد كنت أسارع إلى رش الكلمات في خفة ودهاء، أتلاعب بالعبارات، اسرد بعض الاكاذيب وكأنها الحقائق المطلقة، لم اكن أنتظر أن تنطلي حيلي الكلامية عليك، فهذا مستحيل، لكني كنت انظر دوما في عينيك لأعرف هل استحقت تلك الخدع الجدلية إعجابك، كنت تبتسمين بفخر في بعض الاحيان عندما تشعرين بأني اتقدم في تعلم تلك المهارات، كانت تظهر على وجهك بشائر الفخر لمعلم ينظر بعينيه لتلميذه النجيب، بينما تجتاحني غبطة التلميذ الذي استحق تلك النظرات، لكن صدقيني في حديثي عن جميلة كانت هناك الكثير من الحقائق ولا داعي لأن أجمل الامور، لم تكن علاقة مثالية، وانت تعرفين إني لست من الذين يسعون لعلاقات مثالية كاملة، كيف لا وها أنا ذا الان اتحدث إلى جنية!!

 كيف اشرح لك؟، انت تعرفين!!، لا تحاولي الادعاء بعكس ذلك، تعرفين ان علاقتي بجميلة لم تكن علاقة بين رجل وامرأة، فلم اكن قد وصلت لتلك المرحلة من الرجولة، ولم تكن جميلة ستهب نفسها لرجل وإن تراءى لها أنها تحبه، لم تكن جميلة تنظر لي كما تنظر لكل الرجال وهو ما سمح بتقاربنا، فالرجال مصدر رزقها، وغثيانها، كانت تشكو دوما من إنها تحتاج لهم، تحتاج لمن تكره لكي تعيش وتلك حالة من التناقض لا يسهل التعايش معها، وقد كان علي ان استمع طويلا لتلك الاسطوانة منها، حتى إني ادركت إنها تعشق أولئك الرجال، فهي لا تستطيع ان تتوقف عن الحديث عنهم، ليل نهار، أليس هذه واحدة من اهم علامات الوقوع في الحب، أن يسيطر عليك من تحب طويلا وبدون انقطاع، وتشعر بحاجتك للحديث عنه لكل من يمر في طريقك، جميلة كانت تلك التجربة من الخوض في غمار الجزء الحيواني من البشر، الجزء الذي يخفيه المجتمع تحت ستار ، ولنقل مئات من الستائر، هناك في أعمق أعماق المجتمع يحاول الجميع اخفاء تلك الحالة الحيوانية الانسانية، من الحاجة للجنس وممارسته، مخالفين بذلك أعراف وتقاليد رسموها بأيديهم كي يخترقوها كل يوم وبدون هوادة، على ان تكون تلك الخروقات خلف الستائر، ستائر سميكة وبعدة طبقات احيانا، ولم يكن ذلك مفهوماً بالنسبة لي حينها، لكني تعلمت ان اتقبله، فتلك طريقة تعود الناس ان يعيشوا حياتهم فيها، لكن ما بقي خلافاً لا يحل ولم اكن اقدر على تقبله كيف كانت جميلة تصر على ان تخفي علاقتنا، نعم، تلك "العاهرة" كانت تخجل من علاقتنا، كنت اشكل لها وصمة عار في تاريخها المهني، ستضحكين بالطبع على تعبيري "تاريخها المهني"، كنت اضحك مثلك في البداية، حتى تبين لي إن القضية اعقد كثيرا مما نراها، قد تظنين ان مهنتها لاتشبه مهنة كالأطباء، صدقيني، إن الاطباء يقترفون من الاخطاء المهنية يوميا أكثر مما تسمح العاهرة لنفسها من ان ترتكب اخطاء في مصلحتها، فالأخطاء الطبية ليست واردة في مصلحتها، إنه عالم خفي، سري، يقبع خلف عالمنا ولا يستطيع ان يكون جزء منه، وعليه أن يحافظ على مكانته وخفاياه، فهي سر مهم من اسرار بقائه، ولاعجب ان ترتبط تلك المهنة بالعصابات ورجال المخابرات، في حين نقيمهم نحن على اساس أخلاقي متدني في سلسلة القيم الاخلاقية التي نضعها، ويبدو لي اننا نقلل من قيمتهم بهدف الترفع عن حاجتنا الملحة لتلك الرائحة التي تصدر عن المضاجعة وندعي بكل عنجهية انها رائحة نتنة تصدر عن عاهرة، متناسين إننا سنعود دوما طالبين المزيد من المضاجعات والمزيد من الروائح وإن تكن نتنة بعرفنا!! 

لم اكن في البداية أعلم ماهي حدود علاقتي بجميلة، ظننت أنها مجرد نزوة، نزوة شاب اراد ان يكتسح الحياة من بابها الأوسع، لكن المفاجأة كانت أكبر مما أتوقع، فجميلة علمتني عن النساء اشياء لايمكن ان اتعلمها من كل نساء العالم، وجعلتني أدمن السعادة في وجودها، كانت تحترف ألاعيب الصيد والإغواء، كما تحترف التهرب من مصيدة الرجال، كنت كمن يعيش في مدرسة معها، امارس التعلم اكثر مما امارس الجنس معها، وكانت اصعب الدروس تلك التي تضع الجسد في مكانه الصحيح، وتعيد خلق الارتباط بين الاشياء الحسية والنفسية، لتصنع شعورا مستمرا من الانسجام، شعورا بالرضى والقبول، لايمكن نزعهما من داخلي بسهولة، لا استطيع ان اصف لكم تلك القضية اكثر مما فعلت، هي حالة تعاش ولا توصف، فطوبى لمن كسب سعادته من بين انامل أمرأه تسعى لإسعاده!!


--- 8 ---

مسكينة هي جميلة، ولتبعدوا افكار الشفقة من كلامي هذا، مسكينة لأنها وقعت في حب بائس مثلي، هرب من جنيته لأحضانها، لكنه لم تمضي ايام قليلة حتى عاد يفكر بتلك الجنية التي غادرته حتى دون ان تومئ له بإشارة وداع، لقد غادرت ايتها الجنية وانت تعلمين كم انا مدمن عليك، مدمن على رؤية وجهك الشفاف كمن يدمن شرب الماء، غادرتني وكأنك تعلمين إني سأكون بلاحياة من دونك، ستتشقق أرضي وتجف أوراقي، ستتصحر افكاري، سأكون بدن نفع، ولن تعود لي في الحياة رغبة، تلك حالة لم تفهمها المسكينة جميلة، ولن يكون بمقدرة أي كان أن يفهمها، كان من العبث ان اشرح لجميلة إني مصاب بمس من الجن، وإني لن اقدر على الاستمرار بالعيش إلى جانبها، وإنها لن تقدر على ان تخرجني من تلك الحالة التي أعيشها وإن منحتني كل متعة تقدر على منحها، فلم تكن القضية مرتبطة بالشعور والمتعة وحتى الحب لن يكون قادرا على فك تلك القيود التي ربطتني بك ايتها الجنية، كنت تعلمين ان ذهابي بعيدا في طلب الحرية والابتعاد عنك لن يزيدني سوى خضوعا لك، كنت تريدينني ان اجرب لوعة الابتعاد عنك، وتركتني اصرخ صرخة الحرية والانعتاق منك غير عابئة، وها أنذا يوم بعد يوم أعود لأسأل نفسي ذلك السؤال، الأزلي!، هل تستحق الحرية ما نخسره في مقابلها، أحيانا اعيد السؤال بأكثر من صيغة، محاولا إيجاد رؤية اوضح لحالتي تلك، فأعيد تشكيل المعادلة لأقول، هل كان يجب ان تكوني الضد الاخر لحريتي؟ ألم يكن هناك طريقة ما لتكوني في حياتي بدون ان اخسر تلك الحرية التي منحتني اياها الطبيعة؟، أليس من حقي ان ا كون في مشيئة الطبيعة، كما تكونين في حياتي؟

جميلة كانت تقول لي اشياء لم تقوليها انت، وتفعل من اجلي اكثر مما يتخيل لك ان تتخيلي ايتها الجنية، كانت من بشر، من لحم ودم، حتى إنها كانت تشعر بالخجل احياناً، نعم بالخجل، كانت تعيش حالة من الانسجام بين انسانيتها وحياتها، لم تكن بائسة مثلي، تعرف ما تريد، يضحكني الكثير من تصرفاتها، تناقضاتها، فقدانها للكمات المناسبة كان كثيرا ما ينهي احاديثنا بالضحك، تحمر خجلا، وتقول "انت تضحك علي، لأنك متعلم، وأنا جاهلة، أنت شاطر في الكلام!"، نعم، انا شاطر بالكلام يا جميلة، لكنك لست بجاهلة، فكل ما تعلمته لايجعل مني سوى جاهل أخرق بين يديك، أو بين يدي أي امرأة مهما تدنى مستوى علمها"، نعم كانت جميلة محقة بشأني، كنت اجيد الكثير من الكلام، الكلام حتى مالانهاية، أليست تلك موهبة طورتها على يديك ايتها الجنية الخرساء، الست انت من كان يستمع لأحاديثي الخرقاء ليل نهار، بدون ملل، حتى كنت اعتقد انني اقول شيئا مفيدا، او مسليلاً، لم افهم يوما قدرتك على الاستماع، أخشى يوما ما بأني سأكتشف انك لست خرساء فقط، وربما انت جنية صماء أيضاً، فغالبا الصم لايمكن لهم تعلم الكلام، فيصبحون صم وبكم، أي غبي انا لو كانت تلك حالة ممكنة، وأي لعنة انت، جنية لاتسمع ولاتتكلم، صماء بكماء!!!!، لكنك جنية قادرة على أن تجعلني أحمق، أحمق من أمضى سنين من عمره يتحدث لجنية لاتسمع، ولا تتحدث! لا أدري لو كانت المقدرة بجعلي أحمق تثير غضبي بقدر ما تعزيني، فلم تكوني جنية عادية، كنت تملكين سحرا، سحرا لم تستخدميه، وكان يكفي ان اكون خاضعا لسحرك، ليكون كل ما تبقى بين يديك.

 ما ذنبها جميلة!!، جميلة التي كانت تعتبرني كنزها الذي وجدته ولن تشارك احدا به، وكانت تقوم بعمل كل ماتراءى لها انه سيحفظ لها كنزها، ولا أخفيك انها، في لحظات ما، كانت تقدر ان تبث النور في داخلي، وكانت تصرخ كالمجنونة احيانا كلما تراءى لها بريق لمعان في سواد عيوني، كانت مجنونة بي، بينما انا مجنون بجنية غافلتني وانسحبت، وجعلتني أعيش حالة من الضياع! كانت جميلة مثل اي امرأة، تدرك ان هناك من يشاركها رجلها، لم يكن يخفى عليها ان هناك في رأسي امرأة ثانية، ولم تتوانى ان تشاطرني تلك الافكار، وحتى إنها كانت في بعض الاحيان تسألني عنك، كانت تعتقد ان امرأة أجمل منها فقط ستسرقني من حياتها، او ربما أغنى، فالجمال والمال سببان مهمان لترك الرجل لأمرأته وإن كان يحبها، "الرجال ليس لهم أمان"، تلك عبارة كانت ترددها جميلة على مسمعي، وكانت دوما تقول ان مهنتها علمتها الكثير عن الرجال، وإنها كانت تقول لي دوما، أنها احبتني لأني لا اشبه أولئك الرجال، ولكن لم تمر فترة قصيرة حتى قالت لي إنها بدأت تشك بأن هناك رجل مختلف، رجل يمكن لها الثقة به، ولكنها لم تتخل عن أملها بأني لن أكون مثلهم، كانت لديها نظرة للرجال، ولا أدري لو أنها فقدت ثقتها بنظرتها تلك، مسكينة هي جميلة، فكيف لها ان تعرف، ان نظرتها للرجال لاتنطبق على رجل مثلي، رجل لايملك حياته، بل تملكها جنية، وفي حالة مثل تلك تسقط نظرية الرجل والمرأة وتبدأ حسابات لاتفيد معها خبرة جميلة، ولا حتى كل الجميلات، او القبيحات، إنه حيث تتعدى مقدرة امرأة على رؤية مافي رأس الرجل الذي أحبته، في حين يكون كل مافي رأسه هو صورة جنية، او ربما الجنية نفسها تقبع في تلافيف دماغه!!

--- 9 ----

--- 9 ---



أعلم انكم تتساءلون عن الزمن، والمطر، كما تتساءلون عن الشمس في روايتي هذه، لكن عبثا تفعلون، فليست قضايا مثل تلك تهمني فيما انا ذاهب في روايته لكم، فلم يكن الزمن او الظروف المحيطة يوما له تأثير على علاقة رجل بامرأة، ومن يشكك بكلامي هذا ليخبرني هل كانت العلاقة بين أدم وحواء تختلف عن علاقات اي منكم في الزمن الحاضر، هل كانت المرأة لتختلف على مر العصور، إن يكن تغير المظهر الخارجي أوالعقل، لكن ليس من ناحية الطبيعة، الطبيعة خلقت المرأة والرجل، ولن تسمح لهما بالخروج عن طاعتها، لن تصبح المرأة سوى مرأة على مر العصور، وهي ستسعى كامرأة مع الوقت على فعل كل مايؤكد تلك الهيئة التي وهبتها لها الطبيعة، وإن ذلك دوما سيكون حتى دون إدراك منها فيما تفعله، بينما سيتبجح الرجل دوما بفحولته التي اعطت الحياة استمراريتها بينما هو عالق بين يدي امرأة قادرة على جعله قائدا مقداما لجيوش جرارة، او قد تسحبه ليعيش اشد لحظاته بؤسا في دار للعجزة او مشفى لمجانين لايعرف سبب دائهم!
ولأكن اكثر صراحة في قضية الزمن هذه، كانت الساعات والايام غير ذي اهمية بالنسبة لي، حتى تسلسل الفصول بين شتاء وصيف، وما يتخللهما من ربيع وخريف، كانت كلها مجرد تفاصيل في حياتي التي عبرتها بكل سرعة متجاوزا اشكالية الارتباط الازلي بين الانسان وعلاقته بالساعات والتوقيت والمواعيد، كنت أعلم أن هناك سر يربط بين الوقت والحياة والناس، لكن لم اكن لأكترث لقضية مثل تلك، في الصباح كنت انظر لأجد تلك الجنية هناك، اما في المساء فكانت موجودة، الأيام تمر بوجودها كما السحر، ألم تنسى يوما الوقت في مشاهدة فيلم سينمائي تحبه؟، وإن تكررت مشاهدته ساعات ولم تشعر بمرور الوقت طوال متابعتك له، فيكف لا تصدق أن شيئا كهذا حدث معي بوجود تلك الجنية؟،
كانت الساعات كلها تمر بدون احساس بوجودها، شيء يشبه انعدام الوزن،  لكنه انعدام للزمن، ولكن مع اختفائها، كل تلك الخفة في الحياة تحولت إلى حمل ثقيل، وتلك كانت اولى علاقتي المأساوية بالزمن، حين لايمر الزمن!!، تلك مأساة المآسي، الانتظار!!، وليس انتظار محدداً، إنه انتظار بلا موعد، بلا نهاية، أخبرني؟ ألم تشعر يوماً إن الوقت يمكن ان يطول إلى ان تنفجر شرايينك؟، ألم تقوم بعد انفاسك واحد تلو الاخر وانت في صالة انتظار طبيب مشهور، او في صف طويل لملء استمارة ما، تلك تجربة سهلة مقارنة بعملية انتظار جنية ذهبت دون ترك ملاحظة على جانب السرير، ليست زوجة قررت المغادرة، ولم تكن حبيبة قررت الهجران، إنها جنية، جنية واختفت!!!

لم يكن من الصعب ربط اختفائك أيتها الجنية يومها بدخول جميلة إلى حياتي، كان شيئا من السهل تيقنه، لكن الصعب هو كيف السبيل إلى إرجاعك، ماهو الطريق الذي كان لابد ان أسلكه لأصل في نهايته إلى وجودك فيه، تلك كانت قضية جد شائكة، تعلمين اني حاولت كثيرا، ولم أمل المحاولة، في كثير من المرات، حاولت إنهاء علاقتي بجميلة، طردتها من حياتي، لكن ذلك لم يرجعك، وكنت في كل مرة أعود لجميلة في حالة يرثى لها، وكانت جميلة دوما متسامحة معي، كانت فعلا تحبني لدرجة تتقبل كل جفائي لها، وانانيتي في التعامل معها، كنت أعود مخفيا كل انكساراتي، محاولا التظاهر بأني لم ازل ممسكا بزمام حياتي المتناثرة بين البحث والانتظار، وسقوطي في مصيدتك العبثية تلك،
 جميلة كانت دوما تقول لي، اخبرني ما بك لعلي اخفف عنك، وكلما كانت تجده من اجوبة غامضة لدي، هو اني مصاب بصداع لا شفاء منه، نعم، صداع!!، أتضحكين الأن على كلمة صداع، ألست "جنية الصداع"، إن صح التعبير؟؟ ما الذي حزته منك سوى الصداع، وإن يكن شعورا أفتقده وأحن إليه لكن هذا لايمنع عنه الصفة الأهم، هو كم كنتِ سببا لألم في رأسي، كم كنتِ لي وجعا لايمكن احتماله، كما لم يكن ممكنا احتمال غيابه، شيء يشبه الإدمان على المهدئات، شعور بأنك مدمن يعذبك، وشعورك بفقدان المهدئات يعذبك، نعم، أنا معذب ياجميلة، ولن يكون لديك حل للتخفيف عني، إني مصاب ولن يكون من السهل معالجة اصابتي!!
أيتها الجنية،  لم يكن سهلا أن أكتشف أنه كانت مشكلتك مع جميلة، لم تكن المشكلة معي، كانت جميلة تحبني، وتلك حالة لن تقبلي بها، ولن تسطيعي ان تتعايشين معها، تلك قصة اكتشفتها حين طردتني جميلة من حياتها، حين صرخت بوجهي طالبة مني المغادرة، وعدم العودة إلى بيتها، رمت بكل أغراضي خارج المنزل، كانت مصابة بحالة لم أراها عليها من قبل، صرخت بوجهي "أذهب لا أريد أن أراك هنا ثانية!!"
خرجت يومها إلى الطريق دون اي تفكير، بالذي حصل، كيف ولماذا، كنت ادرك اخيرا، أن جميلة وصلت لتلك النقطة الفاصلة من علاقتنا، المكان الذي لاتقبل به امرأة في علاقتها برجل، فأما أنا لها، أو لست لها، حاولت معي كثيرا، لم تبخل على علاقتنا، لكنها كانت تضع جهدها في الرجل الخطأ، في الرجل الذي لن يكون لها في أي وقت من الاوقات، جميلة كانت ايجابية إلى ابعد الحدود، بينما كنت انا اقابلها بسلبية المستسلم لقدره، سلبية كنت اظن انها ستأخذني إلى نهايتي، وأني سأكون من بعد جميلة وحيدا، لدرجة لن أجد من اشكو إليه وحدتي تلك!
هل تذكرين ذلك اليوم ؟ كيف لا!! يومها كان يوم عودتك لأول مرة إلي، فاجأتني!! فحين عدت إلى المنزل لأجدك كما لو انك لم تغادري، كيف اكتشفت أن جميلة اخرجتني من حياتها؟؟ لاأظن أن هذا سؤال يسأل لجنية!!، لابد ان لديكم انتم الجن، تلك الوسائل لمعرفة الاشياء التي تودون معرفتها!!
يومها فهمت معادلة وجودك في حياتي لأول مرة، أنت لا تهتمين لمن أحب، فلأحب كل نساء العالم، تلك قضية لن تزعجك ولن تدفعك إلى الرحيل، طالما انك المرأة الوحيدة التي تملكني، لكن أن تحبني امرأة ما، أن أكون ملك امرأة غيرك، تلك قضية لن تقبلي بها، أن أحب امرأة لايعني أنها تملكني، لكن ان تحبني امرأة فهذا يعني انها تملكني، المرأة هي من تملك الرجل بحبها، الرجل لايمتلك، الرجل يتخلى، إنه عنوان التخلي، و بكل مصداقية،



--- 10 ---

 شقاء هو معرفة الحقيقة!!، فبعد هجران جميلة لي، عدتِ تتألقين في حياتي من جديد، وتسطعين بابتسامتك، في دهاء لم أكن لأفضل أن أحصل على شيء بديل له في حياتي، كيف يحب القط خناقه؟، ذلك مثل ينطبق علينا، انا وأنت، في حالة من الفرح استقبلتك، فرح جعلني انسى جميلة، كأنها لم تكن، وكأنك لم تختفي، ابداً،
 طفت يومها في انحاء المنزل محدثا اياك عن كل ماتراكم في رأسي من اخبار وحكايات، رددت عليك الكثير من القصص، والتي علمت من نظراتك إني اخبرتك بها سابقا، لم أكن أهتم، الحديث معك كان متعة تفوق الوصف، وأنى لي أن أميز بين قديم القصص وجديدها، ما اخبرتك به وما لم اخبرك به!! كانت زحمة الافكار تطفو على سطح رأسي، الأفكار التي كانت غابت مع غيابك عادت لتشعل نار لساني الذي كان توقف ولفترة طويلة عن الكلام، فالكلام إليك سر من اسرار سعادتي، كنت تعرفين ذلك، وكنت تمتعضين لو كان حديثي مملاً، لكن لم تتوقفي يوما عن الاستماع، تشيحين بوجهك عني كلما كان حديثي مملا وبلا نتيجة، كل هذا كان فيما سبق، لكن بعد جميلة كان هناك شيء لم افهمه في ردود أفعالك كلما تحدثت عن الجسد، عن الحب، عن العلاقات، كنت تعرفين اني اتحدث عن شيء قمت بتجربته، وإنه لم يعد مجرد خواطر تجتاز رأسي، تعرفين إني سقطت في بئر البشرية السحيق، وإنه لن يتسنى لي من بعدها الخروج منه وإن المخرج الوحيد لي هو الارتطام بقاع تلك البئر!!!
 هل كنت تظنين ان وجودك في حياتي سيحصنني من الوقوع في شرك البشرية، والانسانية، هل فكرت ولو لمرة واحدة، بأني من فصيلة البشر وإني في يوم ما سأكبر وستظهر علي علائم البشر، سأحب وأكره، وقد أخون وأصدق، تلك الجينات ستظهر في يوم ما، كما يعود الذئب الذي تربى في المنزل وهو صغير، ليكون ذئباً عندما يكبر، وإنه لن يكون كلبا وفيا في يوم من الايام، وإن منحته العائلة كل العناية والاهتمام، وبالمناسبة سأخبرك بأني ربما تمنيت أن اكون ذئبا، اكثر مما تمنيت أن أكون من فصيلة البشر، فحتى الذئاب لديها مقدرة على ادراك طريقة حياتها أفضل منا نحن البشر، الذئاب تملك من القوانين اشد واقسى من ان تترك لظرف ما ان يحطم عالما فنت دهورا في بنائه، على عكسنا نحن البشر، لن نتوانى في ايجاد كل السبل لتغيير تلك العوالم التي بذلنا الكثير للوصول إليها، نحن البشر فقط نتميز بتلك المقدرة الفتاكة على هدر الوقت في بناء صروح عالية ننشد لها الألحان في استعراض جنائزي بينما نقوم بتحطيمها بكل ما اوتينا من قوة، ستكون دوما حياتنا في مسار دائرة البناء والهدم، في عملية لاطائل منها في البحث عن الجنة التي خسرناها يوما، ولن نكتشف مهما بنينا ما سيعوضنا عن تلك الخسارة،
 وإن يكن وجودك في حياتي ايتها الجنية هو الدليل الوحيد المتبقي لي من علائم الجنة، فما الذي يعطيك الثقة بأني لن اتخلى عنك يوما، فأنت تعملين بلا شك، إن الانسان أدم قد تخلى عن الجنة يوما، وإن حواء كانت السبب في تخليه ذلك، فلم تشكين بأني سأتخلى عنك يوما لأجل حواء، وها انت رأيت كيف فعلتها مرة، حين سعيت إلى جميلة، وتركتك تذهبين، هل كنت تعرفين أن جميلة مجرد نزوة، وبأني سأعود إليك تائبا، متوسلا، هذا شيء اعترف به، ولا انكره، ولكن الذي لم يكن في حسبانك هو أني اكتشفت جذوري هناك، اكتشفت أدم بداخلي، بين يدي جميلة اكتشفت أبعاد جديدة للإنسان لم يكن لي ان اكتشفها بدونها، اكتشف شعورا، أعادني لأدم في الجنة، وكنت سأعيد قطف التفاحة لو طلبت مني جميلة قطفها، كنت سأعيد الحكاية من جديد، كيف لا وأنا ابن ادم، وسأضيف على ذلك بأني ابنه البار، ولن أحيد عن جيناته التي ورثني اياها، لأن ذلك خياراً ليس متاح لي على ما يبدو.

 شيء اخير تعلمته من جميلة، أود أن اذكره على مسامعك، جميلة العاهرة، جميلة التي كانت تميز العهر جيداً، بشكل ادهشني دوما، فهي كانت تملك وضوح الرؤية في فهم العهر واشكاله، والمقدرة على تميز العهر والعاهرين، كانت تغلق التلفزيون احيانا على نشرات الاخبار وتصيح اولاد العاهرة، او تغلق الهاتف وهي تحدث احدهم مكملة الحديث ومرددة لنفسها "ابن العاهرة"، العهر في مفهومها يشمل كل نواحي الحياة، في كل مكان هناك عهر وعاهرين، العهر هو اسلوب وطريقة حياة، لن يقتصر عليها، بل إنها كانت تعلن دوما إنها عاهرة شريفة، لأنها لاترضى ماتفعله في نفسها لبقية البشر، أليس العهر هو ان تتمنى لغيرك الأسوأ وأن يحصل على أسوأ كوابيسك؟ وأن تعمل على ان يحصل عليه بينما انت تدعي عكس ذلك!!

جميلة كانت صفحة لن تطوى من حياتي، فها انا الأن احدثكم عنها، كأنها باقية في دمي، أو لنقل أني بقيت في دمها، بقيت جزءا منها كما بقيت جزءا مني، وهو شيء اكتشفته بعد سنين، حين ألتقيت بجميلة وهي تمسك بيد طفل جميل في الشارع، رأيت فيه صورتي صغيرا، شعرت بأني اعرفه، لكن نظرة غريبة صدرت عنها في ذلك اللقاء، منعتني حتى في أن أسألها عن ذلك الطفل، وكأنها تقول لي: "إياك حتى أن تفكر في سؤالي"، وستكون لذلك الطفل قصة، سأسردها عليكم، في وقتها،

......11 ....


--- 11 --


ايتها الجنية، ولا أدري إن كان يسعدك مناداتك بهذا، دون ألقاب، دون أسماء،  تعلمين ان فترة غيابك الاولى كانت اول تجربة لي في الحياة اعيشها بدونك، بدون تلك الايقونة السحرية التي طالما كانت معلقة في طوق على رقبتي، حياة لم افكر بها وانت غائبة ولكني اكتشفتها بعد ان رجعتي،  فقد كنت دوما تشكلين الحجاب الحامي لي بوجودك، كنت تمنحيني القوة كما تمنحيني الثقة، ذلك شيئا كان يعلمه الجميع في شخصيتي، يعلمون اني كنت اتمتع بشجاعة قلما تمتع بها اقراني، وكنت بالنسبة لي الملاك الحامي دوما، شخصيتي كانت تلفت الانظار بينما الجميع من حولي يتساءلون من أين لي كل تلك الثقة بالنفس، من أين لي كل تلك الشجاعة لأقتحم اشد المواقف صعوبة، كنت اسير دوما في المقدمة وانا في حالة من القوة التي يمنحني اياها وجودك، ذلك الوجود الذي بقي خافيا على كل من حولي، كانوا يرون ما أنا فيه ولكن ليس لديهم اية فكرة عن تلك الجنية المحمولة في ايقونة على صدري، كيف كان لك ذلك السحر، كيف كنت تسيطرين على غرائزي، شيء لم أفهمه ولكني كنت سعيدا دوما بتلك الحالة التي انا عليها بوجودك،  ولشدة ما ارتعبت  وانتابني من الخوف الكثير حين تركتني وذهبت، فقد خفت كثيرا أن افقد تلك الصفات، ان افقد الثقة بصوتي، كما في المشي في الطريق، كان علي ان اتصرف منذ غادرت بنفس الطريقة التي كانت بوجودك، لكن مع فارق وحيد، هو اني كنت ادعي ما انا عليه، كنت أمثل تلك الشخصية القوية ولا احملها، يعيش الخوف في داخلي بينما ترتسم مشاعر القوة على قسمات وجهي، اعلم اني اديت الدور بشكل جيد، لكني في نهاية المطاف اعرف اني مجرد ممثل مدعي لما انا عليه، وكنت دوما اخشى الوقوع في مأزق يكشف شخصيتي المترددة المدعية،

ولكي اكون اكثر تفاؤلا ايتها الجنية الأيقونة، لم تكن تجربة غيابك سيئة إلى الدرجة التي تظنين، كنت افتقدك، نعم، ولكني كنت افتقد نفسي التي كانت تختلف في وجودك،  نفسي التي تخرج من جسدي لتتركني كلما تركتني، وتضع بديلا عنها شخص هزيلا بائسا غير قادر على التصرف او التكلم، وإن تساءلت أين يكمن التفاؤل في هذا، سأجيبك، نعم التفاؤل كان في مقدرة تلك الشخصية الضعيفة ان تنجو، ان تستمر بالحياة بدون مساعدتك، وهي قادرة على النجاة إن كنت تفكرين في المغادرة مرة ثانية، لقد مررت في تجربة غيابك بنجاح، كنت كمن يخشى الغرق في الماء، إلى ان رميت بنفسي في عرض المحيط وها أنذا اليوم اعرف اني اجيد السباحة وانقاذ نفسي، ولولا لتلك ا لتجربة لما تعلمت ما يختفي في داخلي من امكانيات، أليست تلك نعمة التجربة، أليست المغامرة وحدها تدفعنا لنكتشف اضعف الامكانيات لدينا، كما تخرج من داخلنا كل ما توقفنا عن استعماله بعذر عدم توفره أو قلة الخبرات لدينا، لن يعود السقوط في البحر يخيفني وإن تكن تلك تجربة لا اريد ان اعيشها مرة ثانية، فأنا كما تعلمين تعودت الاحساس بالأمان في وجودك، وأني افضل العيش في اقل مساحة ممكنة من الخطر، كما يكون كل انسان في نهاية المطاف!!


أعذروني على كل تلك التفاصيل التي ادخلتكم فيها، فقضية العلاقة بيني وبين تلك الجنية، تثير جنوني وتأخذني في حالة من الغضب وتدفعني للثرثرة كهاجس مجنون، وكأنها كانت دوما تحاول دفعي إلى حافة الجنون، تلك الحافة التي اظن انني عبرتها اكثر من مرة، ولكن سرعان ما عدت لرشدي، فليس هناك من بد، ان الجنون سيكون شريك في حياة من تعيش جنية في حياته،  صحيح ان وجودها كان سر من اسرار حصولي على الثراء في وقت مبكر من حياتي، وهو شيء لا انكره عليها، ولكن لم يكن علي ان ابقى في حالة من الشكر والعرفان لها دوام الوقت، كان يكفي ان اشكرها وهذا شيء فعلته، لكن ان استمر في قبضتها إلى الأبد شاكرا لها، حتى لا اخسر تلك الاموال، فتلك حالة لن اقبل بها، وهو شيء طالما قلته لها، إن اردتني ان اعود فقيرا، فلن اترجاك، خذي كل تلك الاموال خذيها كلها دفعة واحدة، ولكن لا تتخيلي اني سأجثو على ركبتي لأترجاك، لن اكون عبدا للمال، ولا لمن يهبني إياه، ذلك قرار نهائي، وعلى مايبدو انها ادركت ذلك، وادركت ان المال لن يكون هدفي في الحياة، ولن تستطيع ان تحكم جزء من حياتي لو حرمتني، منه، بل على العكس، كنت اقوى مما تتخيل كلما اقتربت من الافلاس،  تلك حالة جعلت من علاقتنا نداً للند، فلاحاجة  للتزلف بيننا، انت هنا لأني اريدك انت تكوني، وانا هنا لأنك تريديني ان اكون، تلك حالة من السلم عشنا عليها فترة إلى أن ظهرت تلك الفاتنة الاخاذة في حياتي،  "صبا"، وهو اسم سيكون له وقع دائم التأثير على كياني، سيرجعني كلما ذكرته سنين كثيرة إلى الوراء، إلى حين التقيتها، أول مرة!!

--- 12 ---



--- 12 ---


ها أنتم تعرفون منذ البداية، انها فاتنة، وانها تحمل اسم يعبر عنها "صبا"، وهل تعتقدون اني وقعت في حبها بسبب ذلك الجمال الذي منحها لها الله، أم وقعت فريسة الحب من النظرة الأولى حين رأيتها، في تلك الحالة فأنتم تشكون بكل ما رويته لكم سابقاً، وتشكون بمقدرتي على قراءة الاشخاص من النظرة الاولى، لا يا قرائي، وأسمحوا لي بمناداتكم "أصدقائي" الأن، ذلك إن كنتم قد استمتعتم صحبتي حتى الان؟
 نعم، دعوني اخبركم،  لم يكن حباً من النظرة الأولى، ولا يفاجئكم ان لقائنا كان قصة غريبة جدا، ابتدأت في صباح ذلك اليوم الشتائي البارد، الذي اجبرني عن التخلف في الذهاب إلى موعد عمل، فلجأت إلى الاتصال بالشركة التي وعدت أحدهم فيها  لأطلب منه تأجيل الموعد، بالطبع لم يكن زمن الموبايلات، ولا الرسائل الإلكترونية، كان زمن الهاتف، الهاتف الارضي فقط، ولا اتحسر على ذلك، فبدونه لم أكن لأحصل على فرصة لأسمع صوتها في ذلك اليوم، كان صوتي محشرجاً من شدة زكام اصابني، ولم تكن اذناي تسمع بطريقتها المعتادة، وقد طلبت منها تكرار الكلمات على الهاتف اكثر من مرة، وكانت تظن اني لا اسمعها، بينما كنت اريدها ان تعيد كلماتها لكي استمع إلى تلك البحة اللذيذة في صوتها، كان شيئاً غريباً مسني من سماع صوتها، ومن كل كلمة سمعتها منها، اصابتني حالة من الذهول، الاندهاش، الرجفة كانت تسري في كياني، حتى إني لم اكن اميزها عن رجفة نزلة البرد التي كانت تجعل مني مريض يهذي، اغلقت سماعة الهاتف، ورحت أحدق في جدران الغرفة من حولي، كانت تبدو ألوانها غريبة، مائلة للبياض اكثر من المعتاد، وضعت يدي على رأسي يومها لأكتشف ان حرارة جسمي كانت في حالة ارتفاع بعد ليلة طويلة من السعال والسيلان الانفي، كنت اظن اني سأعود إلى فراشي، محاولا النوم، لكني اعدت الامساك بسماعة الهاتف، واتصلت بالرقم مرة ثانية، وعاد ذلك الصوت يخترق قلبي قبل ان يخترق اذني،
"رجاءً، لقد اتصلت بك قبل قليل لتأجيل موعدي إلى الغد!!، هل تم تأكيد الموعد ليوم الغد؟" كان هذا مجرد ادعاء، لكن كان لابد منه لكي اسمع صوتها مرة ثانية، صوتها الذي لم يتردد بأن يجيبني بأن الموعد تأجل للغد، وأن كل شيء على أحسن مايرام،
"هل تريد شيء اخر، ياسيدي؟" سألتني وكانت تنتظر جوابي، وكأنها تطلب السماح بإنهاء الاتصال،  بينما كنت أعصر افكاري لإيجاد طريقة لأطيل من الحديث، خانتني يومها الكلمات، وانا سيد المتكلمين، ترددت قبل ان أجيب، بعد سؤالها لي مرة ثانية وثالثة: " هل انت على الخط ياسيدي؟"،
فأجبتها: “نعم، نعم، شكراً لك،" وأردت ان اتابع الحديث، لكنها على مايبدوا كانت في عجلة من أمرها فأغلقت السماعة، وانقطع الاتصال، احسست يومها بأن شيئاً ما بقي معلقا، رغم انتهاء تلك المكالمة، وضعت السماعة فوق جهاز الهاتف، وانا أقول لنفسي لماذا لم تُعّرف عن نفسها، لماذا بدت كأنها موظفة مبتدئة لا تعرف اصول المحادثات في الشركات، كان يجب ان تقول لي من هي، ماهو اسمها، كيف فاتها مثل هذا التفصيل، لابد انها جديدة في العمل، او انها تقوم بهذه الوظيفة بدل زميلة لها، لربما هي مجرد متدربة في تلك الشركة، ولم تتلق التدريب الكافي بعد، وهكذا بدل ان اعود لزكامي وعطاسي، عدت إلى دوامة الاسئلة التي لم تكن تتوقف في رأسي، سيلانا فكرياً فاق شدة سيلان الزكام من انفي المحمر!!
في ذلك المساء، كنت منهك تماما من التفكير، من التأمل في محاولة استعادة صوتها، محاولة جعلت حديثي يطول ويطول حتى الصباح مع جنيتي التي كانت مرتبكة بلاشك من حالتي التي كانت تظهر مدى حيرتي وتشتتي، شيء لامعنى له اصابني، كانت مجرد مكالمة وكان مجرد صوت، ماحصل لي لم يكن منطقيا، لم افهمه، وكل محاولاتي لتفكيكه وتفحصه يتبين لي غباء تلك اللحظات التي لامعنى لها، بينما تسيطر على كياني وتفكيري،
تتساءلون ما الفائدة من كون تلك الجنية في غرفتي؟ لا تبارحني ليل نهار، بينما انا عاجز عن الحصول على اسم فتاة تعمل في شركة، ذلك سؤال رددته عليك ايتها الجنية يومها مرات ومرات، كما رددت عليك ان شيء ما اصابني، يشبه او يفوق حتى لحظة دخولك حياتي، أيكون كتب علي ان تدخل حياتي جنية اخرى، لن يكون ذلك شيء يحتمله قلبي، ولا عقلي، فجنية لا تفارقني ليل نهار ولكني لم اسمع صوتها يوماً ولا اعرف كلمة قالتها لي،  بينما هناك جنية ثانية دخلت حياتي قبل قليل، ولا اعرف شيء عنها سوى بضعة كلمات قالتها لي على الهاتف؟؟




.

--- 13 ---


كيف لم يخطر لي يومها أن "صبا"  كانت فخاً رسمتيه لي ايتها الجنية، كيف لم يكن يعبر خيالي أنه فقط جنية مثلك تقدر ان تصنع تلك الحالة العبثية من الشوق إلى المجهول، السير إلى البعد الذي لايمكن قياسه بالمقاييس التي اعتدنا عليها، صبا، كانت فكرتك ولاشك، كنت تريدين ان تصنعي مني مجرد مجنون اخر في عالم العشق، في عالم من الوهم لا يختفي قبل ان يقتل بالألم صاحبه، 

كيف لم ادرك يومها، إن "صبا"، كانت صورتك الانسانية ايتها الجنية العابثة، بل أكثر، كنت تعلمين كل ما يشدني، و يثيرني، ويعجبني بفتاة، لقد خنت تلك الصراحة التي اطلقتها عبر سنين وانا احدثك عن فتاة أحلامي، فصنعت لي فخا، ارسلت لي تلك الفتاة، صبا، وانتهى بي المطاف لأعيش كذبة لم اكن ادرك مقدار الذكاء في صنعها، تلك مصيدة لن  انساها ايتها الجنية التي حولت أيامي إلى ليالي طويلة من السهر، من السهاد، في محاولة يائسة في البحث عنها، لم أفهم حينها كيف اختفت، وفي زيارتي المتكررة إلى تلك الشركة لم أكن موفقا بالالتقاء بها، تجولت بين الموظفين اصطنعت الأحاديث معهم، متمنياً أن  اسمع صوتها من جديد، لكن عبثاً كانت كل محاولاتي، ولم اكن اتوقف عن اصطناع الاسباب لأقوم بالاتصال على ارقام تلك الشركة، على امل ان ترد على أتصالي يوما ما، مرت ايام واسابيع، إلى ان فقدت الامل،  ولكن شيئا خفياً، وسواساً، أمنية جعلتني أرغب في ان ألتقي بها وتبعد عني التخلي عن فكرة لقائها، والأن فقط ادرك سبب كل ذلك، أدرك ان سر كل ذلك كان بين يديك، كنت تتلاعبين بي بمهارة، تشدين خيوط مشاعري كلعبة معلقة بتلك الخيوط إلى أصابعك العابثة، كنت تجيدين ولاشك امساك خيوط قلبي المعلق بين يديك،

دعوني لا أدخلكم في تفاصيل العمل، وكيف سارت بي الامور مع تلك الشركة لأعقد معهم عدة عقود مهمة بهدف تنفيذها لصالحهم، فتلك قضية عملت جاهدا عليها، تنازلت عن الارباح وأكثر من ذلك تقدمت لهم بعروض تنفيذ مربحة لهم وكانت خاسرة بالنسبة لي، كل ذلك لأتمكن من الحصول على تلك العقود مع الشركة، كنت مجنونا بفكرة البقاء في بهو تلك الشركة وبين مكاتبها، تماديت في الحديث مع كل من هم في داخل المكاتب، كنت اتجول كل يوم في كل متر مربع من تلك المساحة التي صرت احفظها كاسمي، صرت معروفا من قبل الجميع، وبدا انهم يحبونني ويقدرون تفاني في العمل معهم، لم يدركوا سبب كل ذلك، ولكن لابأس، فالمهم اني موجود بينهم، استمع لأصواتهم، احاول مع كل كلمة اسمعها  استرجاع ذكرى ذلك الصوت الساحر الذي لم اكتشف صاحبته حتى ذلك الحين، ،

بعد كل تلك المحاولات الفاشلة لكي التقي صاحبة الصوت، بت أعلم انها ليست موظفة في تلك الشركة، وأن صدفة حديثي معها على الهاتف في ذلك اليوم، ولابد ان تكون مجرد، صدفة، وبدأت متيقنا أنها كانت هناك مجرد صدفة، أو أنها كانت مجرد زائرة لأحد الموظفين، وقامت بالرد على الهاتف من باب المزاح، او التعاون، كل تلك الافكار كانت تحزنني، وتزيد من حيرتي ويأسي، ولكنها لم تسقط الامل في لقائها يوما ما، إلى أن جاءتني دعوة في احد الايام إلى الشركة، من اجل الاحتفال بالانتهاء من تنفيذ احد العقود، والتي اعتبرتها الشركة انجاز كبير، بسبب السرعة في التنفيذ وانخفاض التكاليف،  نعم، بالتأكيد سأكون في الاحتفال، ذلك كان تأكيدي لمن احضر لي الدعوة، وكيف سأدع فرصة مثل تلك تفوتني، أو أفوت فرصة احتمال لقائي بها،

كان حفلا راقيا، ملئ بالنساء، نساء من مختلف الاعمار والأذواق!!، امضيت الحفل متنقلا بين نساء الحفل، ابتسم لهن، افتح احاديث بلا هدف، سوى ان استمع لأصواتهم، كادت الحفلة ان تنتهي، وانا في وسط حالة من اليأس من ايجادها، شعرت بخيبة امل، وبأني مجنون يبحث عن سراب، اردت ان انتهي من تلك المشاعر التي اصابتني، اقتربت من مدير الشركة وشكرته على حسن ضيافته معتذرا بأني متعب وسأغادر قبل نهاية الحفلة، مددت يدي مصافحا له، وقبل ان انقل يدي لأصافح زوجته الواقفة إلى جانبه، اكتشفت في تلك اللحظة انني لم اكن قد التقيتها من قبل،  حتى أني لم ألحظ متى جاءت إلى الحفل رغم جمالها الفتان، كيف كنت سأنتبه لجمالها وحواسي كلها في خدمة البحث عن امرأتي المفقودة!!
"سعدت بلقائك ياسيدتي" قلت عبارتي هذه وانا امد يدي نحوها، قبل ان تنطق عبارتها الاولى والأخيرة بالنسبة لي يومها، كان رد التحية منها، هو اخر شيء سمعته قبل ان يصيبني دوار لايمكن احتماله، وبدأت الأرض تدور من تحتي، ولم اعرف بعدها ما حدث، إلا حين استيقظت في اليوم التالي في غرفة تبين انها في احد المستشفيات،

لا أعلم ما الذي حدث، الدوار كان شديدا، وكنت متعب جدا، يبدو للوهلة الاولى ان هذا هو سبب سقوطي، كنت في حالة تشوش وارتباك، والكثير من الضياع، وكل ذلك جعل من صحتي تسوء، لكن حين استيقظت في المستشفى تذكرت اني لم اسقط إلا حين سمعت صوتها ثانية، سمعت صوت صبا، يرد علي تحية الوداع، كانت كلماتها شقت السماء ونزلت على رأسي كصاعقة، رأيت برقا حينها، اضاءت المكان من حولي بضياء افقدني القدرة على ا لنظر من حولي، وراحت كلماتها تطن في رأسي، كان ذلك الصوت اكثر مما احتمل، اكثر مما اتوقع، وأكثر مما انتظرت طويلا من اجله، لا استطيع ان أتخيل إن المرأة التي امضيت كل تلك الايام ابحث عنها، ستكون زوجة، وربما كانت أم،  كيف كان لعقلي المريض ان يتصور وضعا معقدا مثل ذلك، كيف يكون العقل ساذجا، سخيا بالخيالات الافتراضية لحالة لايمكن الوصول إليها في الحقيقة، إن ذلك الصوت النابع من بين شفاهها، دوى في رأسي مرة ثانية، كجرس كنيسة، لم يكن شديد القوة بقدر ماكان تذكيرا بالخطايا والفضائل التي نعيش تائهين بين حدودهما!!



--- 14---




تعلمين ايتها الجنية أنك اثبت لي يومها أن ما قمت به من عمل لا يستطيع فعله غير الجن، الجن وحدهم كانوا قادرين على أخذي إلى البحر وإرجاعي من شطه عطشاناً، حتى إنك فعلت اكثر من ذلك، لقد جعلتني ازداد عطشا يوما بعد يوم، وحين اردت ان اشرب من الكأس وجدته مراً، حامضاً، صبراً، ولا أدري اي صفات اخرى أعطيه، لكنه بالتأكيد كان من المستحيل ان أشربه، وإن تجرأت على شربه فهو بالتأكيد لن يروي ظمئي.
يومها اردت ان اخرج من المستشفى بأسرع وقت، ولكن لا أخفيك بأني كنت في حيرة لم أعهدها من قبل في نفسي، ليس من ذهول المفاجأة لكن لأني ولأول مرة اواجه نفسي بأسئلة لم أكن لأسألها من قبل، سؤال مثل "إلى اين سأتوجه؟"، أين ستأخذني قدماي؟، لن يكون هناك مكان اود الذهاب إليه، ولم اكن لأصبر على البقاء في المستشفى، بقيت في سريري بحالة من الوهن جعلت الطبيب يصف لي مجموعة من الفيتامينات والمقويات، طلب مني الراحة لأطول فترة ممكنة، وان اعود لزيارته بعد ان اجري بعض التحاليل، يومها قلت له مازحاً "بالتأكيد سأعود ولكن هل سأجد حينها لديك علاجا لمرض الحب ايها الطبيب؟"،  ضحك بدوره واجابني بأنه لن يكون هناك دواء للحب، حتى يثبت ان الحب هو داء يحتاج لدواء، وأضاف بأن الحب هو بحد ذاته علاج للنفوس المريضة، وقد يكون الحب أفضل دواء في بعض حالات لمن لم يشف مرضهم أي دواء اخر،
فاجأني رد الطبيب، واخذني بعيدا في التفكير، في قضية لم اكن لأنتبه لها من قبل، إنه الحب، داء ام دواء؟، نعمة ام نقمة؟، كيف كنت سأعرف ايهما بينما أنا ملقى في غرفة مليئة برائحة الكحول، والدواء،  كنت بحاجة لهواء نقي، اشرع معه افكاري وحواسي التي غابت طويلا قبل الصعود إلى المنطقة العليا من دماغي، خروج تلك المشاعر من اللاشعور إلى الشعور هو بحد ذاته تغيير يحتاج لمن يحلله ويشرحه لي، وبالتأكيد لن تكوني انت ايتها الجنية التي أوغلت في صنع تلك العذابات لي، ولم تترك من الشر باباً لم تطرقه لتضعني في تلك الحالة المزرية.
عندما عدت في ذلك المساء إلى المنزل، واكتشفت انك لا تبالين لما انا به من مصاب، اكتشفت ان لك يدا في قصة صبا، واكتشفت  إن وجودك في منزلي هو بحد ذاته اعتراف منك، انك لا تشعرين بالخطر من وجود تلك المرأة في حياتي، وإنها لن تكون نداً لك، كيف لا، وانت وضعت القيد في يدي، وتعلمين اني لن استطيع الفرار إلى امرأة ليس لديها ادنى فكرة عما أصابني ولا تشعر حتى بوجودي.

أكنت ترغبين في ان تتحديني أيتها الجنية؟،  او ان تثبتي لي شيئاً لم اكن أراه؟ كان عليك ان تخترعين حيلة اخرى، حيلة لاتدمر الروح، بل إنها قد دمرتها وفتتها إلى قطع صغيرة، وبدأت تختفي تلك القطع يوما بعد اخر، كانت تختفي كأن عصفورا صغيرا  أعتاد ان يلتقط كل يوم من تلك الفتات ويذهب بها بعيدا، ربما ليطعم صغاره، او ليحتفظ بها لشتاء برده قارص، مسكين ذلك العصفور المخدوع، فهو سيعلم يوما ان تلك الفتات لا تغني من جوع ولا تقي من برد، إنها فتات روحي المشلولة، الممزقة، روح قررت جنية مجنونة ان تعبث بها حد إنها ورطتها في قصة حب يدمــر الـــروح.
بالتأكيد أعترف لك بأنه حب يدمر الروح، تلك عبارة تفي بالتعبير عن حالتي، وتصف روحي العاشقة المشردة في عبث الجنون.


لم تكن صبا مجرد امرأة جميلة بصوت اخاذ، إنها زوجة، وأم لطفلين صغيرين، اكبرهما ولد معاق، لم يكن مصاباً بشلل الأطفال، لكنه كان مريضاً وغير قادر على المشي بدون كرسيه المتحرك، الطفل الصغير كان يبدو شقيا، وكأنه يتحرك بالنيابة عنه وعن أخيه المقعد، وقال لي كل من يعرفهم عن قرب أن سعادة تلك العائلة بادية للعيان، الإيمان يرتسم على محياهم، يؤمنون بأن القدر اختارهم ويمتحنهم، وعلى مايبدو انهم كانوا مقتنعين تماما بأن ذلك لن يزيدهم سوى تعمقا في إيمانهم، وإنه لن يسبب لهم المشاكل بقدر ما سيمدهم بالقوة لمجابهتها.

الإيمان!!، لكم احسدكم ايها المؤمنين، الذين يرون في كل مصائب الدهر امتحانات لعزيمتهم، ويقفون كالأشجار الصلبة في وجه المصائب، دون ان يفكروا بالتراجع او التوقف عن تحديها، أيها المؤمنون، إن لديكم من العزيمة والقوة ما يعجز أعتى الجبابرة ان يحمله بين ضلوعه، ولكم تمنيت ان أعرف مصدر ايمانكم، او من اين تنبع تلك الحالة الروحية التي تبث الاطمئنان في روحكم كما تبث الرئتان الاكسجين في الدم الذي يسري في عروقكم،
لم افكر يوما ايتها الجنية بالإيمان، ولم اعتد ان ابحث عن مصادره وتأثيراته،  ولن أضيع وقتي في فهم تلك القضية المستعصية على الفهم بالنسبة لي، فقد تبين لي في يوم من الايام ان الإيمان يولد في قلوبنا كما تولد الروح، إنه هناك دوما، موجود ولكن قلة من يصلون إليه، أو يدركونه، يضعه الرب بين ثنايا القلب كما يضع باقي بركاته الخالصة لبني البشر، ولكنه لا يخبرنا كيف ولماذا ومتى علينا ان نستعين بتلك العطايا، ويدع لنا حكمة اكتشاف بركاته تلك، ولا ادري إن كان قدر علينا أن نضل الطريق أحياناً كثيرة، ولكنه سرعان ماسيفتح لنا قلبه الواسع لننهل من عطاياه بقدر ما نرغب وعندها سنتعلم إن تلك نعمة علينا ان نقدرها، وأنه دوما سيكون هناك ليقدم لنا العون ويخرجنا من عالم الضلال إلى عالم العطايا الوسيع الرحب، وإن كل ما علينا والحالة تلك هو ان لا نفقد ايماننا مهما كانت الصعاب التي واجهتنا،
كنت تضحكين على كلامي هذا بالتأكيد ياجنيتي، تضحكين على حالي التي انقلبت، فكيف لمن مثلي ان ينطق بكلمات عن الايمان، والطمأنينة، وانا في حالة من اليأس العابث بحياتي، كما تعبث قطة بفأر اصطادته قبل ان تقرر متى تفترسه وتخلصه من عذاباته الأليمة،  وتعلمين كم من الايام والليالي مرت علي قبل ان اقرر ما الذي عليَّ ان افعله لأخرج من حالتي وحيرتي تلك، أنت وضعت صبا في طريقي، جعلتني اقع فريسة حبها، واخترت أن تضع بيني وبينها حواجز، تمنعني أن اقترب منها، او أن أصل بحبي لها إلى غاية أتمناها، او قد أرغب في ان أحققها بوجودها، ألم أقل لك إنه حب يدمر الروح،  لكن في النهاية علي ان اقبل التحدي، أن اقبله كفارس نبيل، لا يقبل الخسارة كما لا يقبل ان يتنازل عن أخلاقه النبيلة التي جعلت منه فارساً، ولن يكون عليه سوى ان يخفي كل تلك المشاعر لتفتك به في وحدته، بينما يلبس قناع الابتسامة في حضور الأخرين، سيكون علي أن اقبل تلك الحالة من التناقض بين نار الحب، ونار النبل، إنه شيء أفتخر به، وافتخر بأني سأكون أكثر نبلاً مما تتخيلين أيتها الجنية، وقد كان هذا تحديا بيننا طالما افتخرت بأني سأنجزه رغم كل الصعاب،

قررت ان كل ما علي ان افعله هو التصرف وكأن شيء لم يكن، وهكذا لم تمضي ايام حتى عدت لأمارس اعمالي الاعتيادية، كنت اذهب إلى الشركة واراقب انجاز المشاريع، اتنقل كالعادة بين المكاتب، اتحدث إلى كل من اقابلهم دون تردد، حاولت ان لا اتجنب المدير حتى لايكون هناك اي تراجع عن تلك الحالة من التجاهل التي قررتها، كادت الخطة ان تنجح، كنت اعود كل مساء إلى المنزل لأخبرك ايتها الجنية، بأني تجاوزتها، وأني قادر على الاستمرار بدون حتى ان افكر بها، وارى في ابتسامتك الشامتة تشكيك في روايتي تلك، لكني كنت اعاندك واعاند نفسي، كنت اضع في داخل عقلي افكار اكثر من أن يكون لي القدرة على التأكد من صحتها على ارض الواقع، فكل تلك المحاولات في التجاهل والاستمرار كأن الحياة مستمرة، كل تلك المكابرة والمعاندة، انهارت، نعم انهارت، ولا بد انك سعدت كثيرا عندما اخبرتك يومها كيف انهارت كل تلك الحالة المتصنعة من القوة الزائفة، فما إن وقعت عيني عليها لمرة ثانية في بهو الشركة، حتى ضاقت انفاسي، وبدأت يداي ترتجفان كمدمن على المخدرات لم يتناول جرعته لأيام طويلة، حاولت جاهدا ان اتمالك نفسي، وأن أحاول تنظيم نفسي المتعثر، أن أعيد التوازن المفقود في كياني، وقفت كصنم لايتحرك، كي لا تكشفني حركاتي، ولكني تحطمت إلى اشلاء بكلمة واحدة نطقتها، كلمة ترحيب قالتها بعد ان مدت يدها لتسلم علي، اصابني الدوار كما في يوم الحفلة، شعرت بقدمي تتهاويان، ونفسي ينقطع، لكن لم اسقط هذه المرة على الارض فاقداً للوعي كما حصل لي في تلك الحفلة، قررت ان انسحب مسرعا قبل ان اسقط، وقبل ان تنهار كمية كبيرة من الدموع من عيني وانا في طريقي إلى المنزل، دموع جعلتك تضحكين كثيرا يومها، تضحكين على حالتي المنهارة كمكنسة تحولت إلى كومة من القش الرث لاينفع معها سوى أن ترمى في حاوية الزبالة،

كانت فشلا ذريعا تلك الخطة، في التجاهل والادعاء، أكان يجب ان أتعلم ان الحب شعور اقوى من أن يخفى أو يدفن، ولا حتى ان يتم تجاهله، لما لم تخبريني ايتها الجنية إنه الحب، إنه تفاعل كيماوي، ستنطلق تفاعلاته ما إن تجتمع أطرافه، وإن الجسد سيكون عبدا صاغراً لتلك التفاعلات الطاغية عليه ولن يرفض لها طلباً، تلك حالة لا يمكن السيطرة عليها، كما التفاعل الكيماوي سيؤدي لانفجار فيما لو منعنا الغازات المنتشرة من تفاعلاته من الانطلاق، سيكون الحب قنبلة تفجر حامله إن لم يسمح لتلك المشاعر في التعبير والانطلاق، ولايطول او يستمر الحب بعدها بل سيخمد بعد حين وسيتحول كما  تتحول التفاعلات الكيماوية إلى رواسب كامدة اللون لن يرغب بها تلميذ انهى اختباراته في درس ممل،!!

--- 15 ---

--- 15 ---



كنت تائهاً ومشرداً، تلك حالتي التي اصفها بدون ان أعرف اي طريق سأسلكه للخروج من تلك الحالة التي لم يرق لي البقاء فيها طويلاً، تراقبني نظرات تلك الجنية شامتة بي، نظراتها جعلتني افكر يومها انها وضعتني في اختبار صعب، ولكن طالما هو اختبار بالتأكيد فأن هناك طريقة ما للخروج من تلك الحالة، لايمكن تحدي الأخرين في أمور ليس لها حلول، ولكن يمكن تحديهم في ما يصعب إيجاد الحل له، 
بعد ليلة طويلة من التفكير، قررت ان اسلك الطريق الصعب، اسلكه إلى نهايته، فتوجهت صباحاً باكرا إلى الشركة،     كان مديرها قد وصل لتوه فتناولنا القهوة سوية، وتحدثنا في امور كثيرة، انتهت بدعوتي له ولأسرته على الغداء، فقبل دعوتي تلك،  مرحباً، في ذلك اليوم بدأت اتحرك كثيرا للتقرب من تلك العائلة، دعوات، حفلات،  سهرات، كان الوقت يمضي سريعا وعلاقتي بتلك العائلة اصبحت متينة جدا، صداقة عائلية!!، كنت اراقب تلك العائلة وطريقة حياتها، واقاوم كل مشاعري تجاه صبا، وكان ذلك اصعب جزء في تلك العلاقة العائلية، فكيف تخفي مشاعر حب تجاه صديقة، تعتبرك صديق لعائلتها وتكن لك الاحترام والمودة الكاملة، ولا تشعر تجاهك بأي من مشاعر الحب، في حين تلك المشاعر تكاد تقضي عليك، كان تحدياً صعباً، استطاعت تلك الجنية ان تفرضه علي، ان تضعني في مصافي الاتقياء الذين يقاومون الرغبة والمشاعر تجاه النساء، في حين ينتظر الاتقياء النتيجة في الجنة عند رب السماوات، بينما اتعذب انا دون ثواب استحقه، بل عذاب يشبه عذاب النار الابدي، 
كنت اعود في كل مساء لأراك أيتها الجنية جالسة في مكانك المعهود، تنظرين إلي بنظرة المترقب لما سأقول، وكأنك تمثلين عليَّ بنظراتك تلك،  فقد كنت تعلمين تماما انني لن أجرؤ على تجاوز حد من حدود الاخلاق، ولن اتقدم خطوة واحدة تسيئ لتلك القواعد التي رسمتها لنفسي منذ زمن بعيد، لا تجاوزات أخلاقية، لا هوامش للأخلاق، الدفاع عن الاخلاق بكل قوتي وصنع الخير، إذا ما استطعت إليه سبيلا، كان يمكن ان استمر على تلك الحالة سنوات طويلة وانت تعرفين ذلك، حتى ان التقرب من تلك العائلة شكل لي في البداية بعض الحرج مع نفسي، ولكني لم استطع ان اقاوم التقرب منها، ولكني عاهدت نفسي ان اكون أمينا على علاقتي تلك ولا اتجاوز اي من الحدود التي تلزمني بها علاقة الصداقة، 
قد مر وقت طويل، والحب كان يعمل على تهشيم وتحطيم روحي، يدمرني كل يوم الف مرة، يذروني ترابا على الطريق، لكن ما ألبث أن اجمع شتات نفسي قبل أن أعود إلى البيت وتريني على تلك الحالة، كنت أحاول جهدي ان ابقى قويا صامدا امام تلك الجنية، لم يعد الحب هو ما يهمني، بقدر ماكان يهمني صمودي امام تحديك ايتها الجنية،
 وبدأت قضية الحب تأخذ منحى غريب لم اعهده من قبل، فبينما كنت احلم بأن يتحطم زواج تلك العائلة ليتاح لي الاقتراب من صبا، كنت لا اتوانى في مساعدة تلك العائلة على تجاوز مشاكلها، وقد وقفت مرة  إلى جانب زوجها في مصاعب مالية كانت واجهته في ادارة تلك الشركة، ودعمته للحفاظ على عمله ومصدر رزقه وسبب أمان حياته العائلية، كانت صبا تنظر إليَّ نظرة الامتنان والعرفان لصديق وقف كثيرا إلى جانبها وجانب اسرتها، كانت تلك النظرة منها تعطيني احساسا غريبا، شيء لا علاقة له بالحب، كان له علاقة بالانتماء لعائلة ، يمكن ان نسميه "حب العائلة"،  وهو شيء قد ساعدني على البقاء قريبا منها، وفي نفس الوقت اعطاني حصنا واقيا من التفكير بمشاعري تجاهها قدر الامكان، 

وانا ابصم لك ايتها الجنية بالعشرة، ان تلك الحالة التي وضعتني بها، ضمنت لك ان ابقى مُلك يديك، غير قادر على الهرب إلى اي مكان، لاحب سيغزو حياتي قبل ان يختفي حب صبا، وحب صبا لن يختفي لأني لم ابح به، ولن ينطفئ مع الزمن، تلك حالة من الاستحالة الخروج منها.

--- 16 ---



حب بلا وصال!! ذلك شيء كنت ابغضه في بادئ الأمر، وأحمّله سبب الكثير من الحزن والقلق في حياتي، لكن مع الوقت تعلمت كيف يكون ذلك الحب صمام أمان لقلبي في نفس الوقت الذي يحطم روحي!!، انتظروا قليلا وسأشرح لكم تلك المتناقضات، فذلك الحب شكل السد المنيع امام اي امرأة قد تخترق بحبها قلبي المسكون بحب صبّا، وذلك جعلني اقترب من النساء بطريقة سلسلة طبيعية، لا ادعاء ولا تصنع فيها، لم تعد المرأة مرأة، بل اصبحت صديقاّ،  شريكاً وفي كثير من الاحيان نداً، لاشيء يفقد المرأة موقعها بالنسبة للرجل مثل الحب، الحب يرفعها بالنسبة للرجل من مصاف البشر إلى مكانة الملائكة، ويرفعها عاليا كلما اتقد ذلك الحب، لم اكن احلم بامرأة ملاك، لا اريد لأمراتي ان تكون ملاكي، كنت اريدها ان تكون بشرية مثلي، لها ما لي وعليها ما علي، ولم يكن ذلك ممكنا لو كنت احبها، لو كنت اراها ملاكا وإن تكن بشرا، كان لابد للحب من ان يختفي من علاقتي بالمرأة، وتلك كانت فرصتي، فقلبي المغلق على حب صبّا، لن يقع في الحب، ولكني سأجد المرأة من حولي كل يوم، سأقترب منها دون خشية الفقدان، دون الخوف من لوعة تصيبني ولا اشفى منها بعد ذلك، وهكذا حياتي تحولت إلى امتحان طويل، لم تعد الخشية من السقوط في الامتحان تعنيني، فأنا اعلم ان الامتحان لن ينتهي في يوم من الايام، وطالما هو مستمر، فلن يكون هناك يوم النتائج، تلك حالة اشكر عليها جنيتي، التي لم تستطع ان تغير من طبيعتي كبشري يقع بالحب، ولكنها وضعت في طريقي حباً، جعل وصال الحب بالنسبة لي مستحيلاً، 
هل يلف الغموض الحالة التي احاولها وصفها لكم؟؟ 
انظروا قليلا لعلاقة المرأة برجل شاذ، كيف هي تلك العلاقة، الا تظنون انها علاقة صداقة روحية مليئة بالإنسانية ، لا تشوبها منغصات العلاقة بين رجل وامرأة عاديين، المرأة تثق بالشواذ لأنهم لايفكرون في جسدها بل يصادقونها هي نفسها، بلا جسد بلا منغصات، ما اروع العلاقة بين الطرفين حين يتنحى الجسد من العلاقة امام الروح ، والروح لديها من الوسائل الكثير لصنع التألف والثقة بين الطرفين، 
هل تنظرون لي وكأني افضل العلاقات الروحية على الجسدية؟، لا، لا تخطئوا وتظنون بي ذلك، لطالما كنت اعتقد ان الروح والجسد مكملان لايمكن لأي منهما البقاء دون الاخر، الجسد وعاء الروح، والروح قلب الجسد،  ذلك كان اعتقادي ولمدة طويلة ولكن حالة جديدة  اصابتني عندما ألتقيت بأخت صبا في إحدى الجلسات التي جمعتنا في منزل صبا، كانت تشبهها لحد كبير، لها نفس الملامح، شكل الشعر ولونه، لكن لصوتها نبرة مختلفة قليلاً، او ربما كنت ارفض الاعجاب بأي صوت بعد  صوت صبا الذي مسني من اول كلمة سمعتها منها،  كانت تدعى دعد، وهو اسم لم أكن اسمعه كثيرا، ولكن كان له وقع جميل عندما تعارفنا، كانت لها شخصية مختلفة قليلا عن صبا،  كان لدعد قامة طويلة، وممتلئة، الملابس القصيرة التي كانت ترتديها تظهر الكثير من المفاتن في جسدها ، ويبدو من طريقة حياتها أنها تظهر الاهتمام بنفسها اكثر مما تفعل صبا التي تنشغل بمسؤوليات اسرتها ومنزلها طوال الوقت.

دعد، تشبه صورة المرأة التي كنت سأحبها لو لم يكن قلبي واقع في حب صبا، وفي تلك الليلة اكتشفت اني استطيع ان اجلس مع دعد ساعات طوال نتحدث في مواضيع شتى دون ملل، ولم أحتاج أن اخترع قصصا غير حقيقية لأزيد من وقت الحديث، بدأت أكتشف في تلك الليلة مع دعد روعة ان تكون لك امرأة صديقة، تحدثها دون حرج، وتسمع منها رأيا  محايدا، ليس خاضع لقوانين العلاقة بين الرجل والمرأة، ولا تشوبه قضية المشاعر والعاطفة، كان لها ذهنا متقدا، وواضحا، وافكارها واضحة المعالم، نعم للحرية، نعم للمرأة المستقلة، ماديا ونفسيا، واثقة من نفسها، تعرف ما تريد، وتقول ما ترغب بقوله،  يومها انتهى حديثنا  حين نهضت عن الكرسي فجأة ونظرت إلي نظرة جعلتني انتبه أني احدق إلى وركيها بينما هي تشد أطراف تنورتها القصيرة! 
"إلى اللقاء!!" قلت مودعا إياها في ذلك اليوم وانا اقصد تماما ما أقوله، فقد كنت اتمنى ان ألقاها ثانية، تركتنا دعد، مودعة سهرتنا، التي لم تنتهي في تلك الليلة، بل أستمرت وطالت بعد رحيلها، يومها جلست صبا تتحدث عن اختها، وكيف طردت زوجها بعد اكتشافها خيانته لها ، فترك لها ثروة من المال مع طفلتين صغيرتين، وسافر إلى إسبانيا مع امرأته المغربية التي كان قد تعرف عليها في احدى رحلاته إلى دبي ولم يعد بعدها،  كانت دعد أقوى مما يتوقع الجميع، فقد تمالكت نفسها بسرعة واتخذت قراراً بأن تكمل مسيرة حياتها وحياة ابنتيها اللتان كبرتا الان ودخلتا المدرسة!
عدت إلى البيت عند الفجر منتشياً، فرحا باكتشاف دعد، واخبرتك ايتها الجنية كثيراً عن دعد، حتى تذكرت انك لابد تعرفينها، لابد انك كنت تعلمين تلك القصص عن صبا ودعد، وإلا لماذا انت جنية من الجن، ولكن ما لم يكن تعرفينه هو تلك الأفكار التي راودتني عن دعد، أفكار كنت ارى وجهك يتقلب وانا اسردها على مسامعك،  أتذكرين عندما اخبرتك اني اكتشفت في دعد شبيه لك، انها تشبهك كثيرا ايتها الجنية، فلا حدود للحديث معها ولا محرمات،  لم يعجبك كثيرا ما قلته لك يومها، لا تحبين حالتي عندما اعجب بامرأة ما، ولكني شعرت بالارتياح على ملامحك عندما اخبرتك اني اشعر بها كتحفة فنية رائعة نتمنى النظر إليها ولكن لا نفكر بلمسها حتى لا نفُقدها ذلك البريق الذي كان يشع من عينيها، تلك كلمات كنت اعنيها، وكنت تعرفين ذلك حق المعرفة، 

---- 17 ---



الثقة بالنفس  هو نصف السر الذي تعلمته منك ايتها الجنية أما النصف الأخر هو ألا تخسر ثقة الاخرون فيك، كان ذلك طريق الثقة بيني وبين المرأة، المرأة لاتحب المخادعين وهي تكره من يخونون ثقتها او يخيبون ظنها، فعليك دوما ان تقف مفكرا قبل ان تتقدم في خطواتك باتجاه امرأة تجد فيها شخص اخر تحتاج إلى ان تبني جسوراً بينك وبينها،  حتى حين تفكر بالتراجع بعيدا محطما تلك الجسور، عليك ألا تترك لثقتها بك ان تنهار، عليك ان تنسحب  مفككا تلك الجسور دون تحطيمها و تذكر أن فقدان تلك المشاعر سيرافقك في حياتك كلما تركتك امرأة وحيداً. كانت تلك كلها افكار مثالية، عن امرأة مثالية ورجل مثالي في ظروف اكثر مثالية من الاثنين، ولابد اني اعدت التفكير بهذه القضية عشرات بل مئات المرات، ليس هناك من جذور لقضية الثقة تستطيع ان تبني عليها موقف ثابت ومحدد، إنها قضية غير قابلة للتعاطي معها من زاوية واحدة مثل كل بقية الاشكاليات الاخلاقية،
دعد!! امرأة جديدة تدخل مسار حياتي، اعلم ذلك جيدا عندما تبدأ الافكار تسير في عروقي وتدور في تلافيف  دماغي، وكل ذلك حدث  بعد ان التقيت بها، ، لم اكن اخشى من التقرب من دعد بقدر ما اكنت اخشى ان يفقدني ذلك ثقة صبّا بي، فنحن غالبا ما نسامح ونغفر في كثير من الاحيان لمن أخطأ في حقنا، لكن سيكون من الصعب ان نفعل المثل لمن اخطأ في حق أحد أفراد عائلتنا، فنحن نملك ان نتنازل عن حقنا، لكننا لا نملك التنازل عن حقوق الاشخاص من حولنا، تلك القضية زادت من تعقيدات الامر، فأنا لا أملك هدفا، لست ابحث عن امرأة احبها بعد ان أحببت صبّا، لكني ابحث عن امرأة شريك لي، استطيع ان اشاركها أفكاري وتشاركني أفكارها، فقد مللت جنيتي الصامتة لعهود، المتمكنة من السيطرة على حياتي بقدرتها على التحكم، كنت أريد امرأة لا نملك معا سوى بعضنا البعض، بحيث يمكن لنا أن نعيد ترتيب اولياتنا في الحياة دون قدرات الجنية والجن، دون ان يكون هناك شيء معروف، ان نكتشف الغموض معا، وان نستمتع بالوضوح بعد كل انكشاف لسر من اسرار الحياة امامنا،
كانت دعد تشكل تلك الفرصة امامي، فرصة الاقتراب من امرأة تعطيك من الثقة بقدر ما تأخذ منك، الند للند، امرأة مثل دعد، ستكون مفتاح لحياة لا تكون فيها المرأة الملاك، كما لا تكون المرأة مجرد امرأة، كانت حالة بينهما، المرأة الصديقة، كلماتي هذه اضحكت الجنية يومها، كانت تعرف اني مذ تعرفت عليها لا ازال ابحث عن امرأة تشبهها، كانت تعلم تلك الجنية الداهية اني خاضع تماماً لتلك الهالة التي تنبثق عنها، امرأة مثالية ليست موجودة حين نضع الشروط، لكن كل نساء العالم يصبحن  متوفرات حين نخفي الافكار المسبقة وكل تلك الشروط التي نضعها.
وكان يوم اخر التقيت به بدعد، في منزل صبّا، وكان حديث طويل حول الحياة والناس، الرجال، النساء، وكل ما يمكن ان نتحدث عنه، وعندما قررت دعد المغادرة، طلبت منها ان تعطيني رقم هاتفها، كنت اعرف انها ستعطيني الرقم ولن تسألني اي سؤال، ولكنها نظرات صبّا الموجهة إلي مباشرة، جعلتني اضيف على طلبي عدة كلمات فيها بعض المجاملة، جعلت دعد تضحك على تلك ا لكلمات التي شعرت باني قلتها لأخفف من وطأة نظرات اختها حينذاك؛
لم اتردد بالاتصال بدعد، ولم اتردد بدعوتها للخروج، ولكنها صدمتني برفضها لدعواتي تلك، بكل لباقة، حاولت عدة مرات، وفي كل مرة كان الجواب مهذبا ولكن رافضاً، لم تتكن تتحجج بشيء، ولم تكن تدعّي اشياء، كانت ترفض ببساطة، وتقف عند كلمات الرفض دون اي اضافات، ولا تتواني ان تكمل الحديث بسؤالي عن احوالي وعن احوال الاعمال والاشغال، وقد يطول حديثنا الهاتفي احيانا لساعة او اكثر، ونحن نتحدث في امور شتى، لكن ليس اكثر ولا اقل؛
دعد ايتها الجنية كانت الدرس أخر تعلمت منه الكثير، دعد!، شكلت نقطة تحول جديدة في طريقة تفكيري حينذاك، وعلى يدها تعلمت إن المرأة كائن متفرد، كائن لا يشبه حتى نفسه،  دائما يفاجئك بغير ما تتوقع منه، يمشي على طريق لايمكن لك ان تتخيله، ولكنه يغريك بالمشي إلى جانبه، ومع كل خطوة تعيد التفكير في لحظة قبولك عبور ذلك ا لطريق، وتصبح كأعمى يمشي وراء طفل امسك بيده ليعبر به جسر ضيق فوق نهر مسرع بأمواجه!
دعد، اتصلت بي في ذلك اليوم، وقال انها تود رؤيتي، طرت يومها مسرعا، تركت كل الاشياء من حولي وانطلقت، كانت تجلس وحدها في المنزل، وإلى جانبها كان هناك مجموعة من اوراق الشدة وبعض الكتب القديمة، فضحكت متسائلا هل تفتحين الفال او تبصرين باستخدام أوراق الشدة، فردت ضاحكة، لا، كنت اتسلى قليلا مع الأولاد، لكنهم ذهبوا ليؤدوا واجباتهم المدرسية،
دعد، كم مرة ذكرت ذلك الاسم امامك ايتها الجنية، كنت اعتقد انك ستكرهين ذلك الاسم لكثرة ما رددته على مسامعك، ولكن تبين لي ان في ذلك الاسم سعادة لك، سعادة سأكتشفها في ذلك اللقاء الذي جمعنا، ولم اعرف منذ البداية لماذا اتصلت بي دعد، كثير من الافكار والخواطر مرت في رأسي ولكني صدمت حين بدأت حديثها دون تردد، كنت اظن اننا، "هي وانا" سنكون محور حديثنا، لكنها فاجأتني بطلب لم اكن اتوقعه، حين طلبت مني ان اغادر حياة اختها صبّا، قالت تلك الكلمات وتركتني اتصبب في عرقي، و أقف عاجزا  امام كلماتها، مرت لحظات قبل أن أنظر إلى عينيها، وأعرف انها كانت تعني كل كلمة قالتها، كانت عيونها تقول مالم تقله بكلماتها، كانت نظراتها تفضح كل مشاعري التي اخفيها لأختها، وتفضح كل محاولاتي البقاء بقربها، لم اتردد بسؤالها عن صبّا ومدى معرفة صبّا بهذا الكلام، فعادت للحديث بطريقتها الجريئة الواثقة، اختي تعرف ماتكن لها، ليس هناك امرأة يخفى عليها من يحمل لها مشاعر الحب، كيف وإن كانت تلك المشاعر اكبر من ان تخفى، صبّا، عانت كثيرا بسببك، قالت لي تلك الجملة ولم تنتظر مني ان أرد بشيء، قالت، إن صبّا مثل كل نساء العالم، تحب ان يحبها الرجال، وكانت مستعدة ان تفعل اي شيء لمن يقدم لها حباً يستحق التضحية بحياة كاملة، وإنها كانت عاجزة عن التصرف ازاء تلك المشاعر، كانت تعتبرك نقمة اكثر منك نعمة، فلم يكن هناك سبب يمنحها رفضك، كما لم تقدم انت لها سبب لتتخذ موقف محدد من وجودك في حياتها، تلك حالة لا تُشعر احدا بالسعادة، بل انها قد تحول السعادة إلى نقمة وبؤس!
دعد قالتها لي، نعم بؤس، انا بائس،  تلك حقيقة كنت اظن اني وحدي اعرفها، ولكن  دعد اظهرت  لي  جهلي وعدم معرفتي بالنساء، وقلة خبرتي بمقدرتهن على كشف ذلك البؤس المغطى بنبل لا يضر ولا ينفع،
لم اكن اعرف ما ارد، او لنقل لم يكن هناك من رد، سألتها يومها: ولهذا كنت ترفضين دعواتي لك، كنت تعرفين أني رجل بائس!! مفقود الأمل منه؟، نظرت إلى وجهي المغطى بحبات العرق، واجابتني، بأنه لا سبب محدد وراء رفضها لي، وصفتني يومها بالرجل الصديق، الذي تقدر صدقاته، ولكنها لا تبحث عن صداقة رجل، قالت انها كانت تحب زوجها، الذي طردته حتى تبقي على الذكرى الجميلة من حبهما قبل ان تقتل المشاكل بينهما تلك الذكريات، لم تكن بحاجة لرجل صديق، وإن ندر وجودهم، ولا تشعر برغبة في وجودهم في حياتها، كانت تتحدث ببرود اعصاب لم اشهد مثلها مثيل في امرأة، حاولت ان اقابله ببرودة اعصاب، لكن برودة اعصاب المهزوم الذي وضع كل رهانه على حصان واحد، وها هو يخسر كل شيء، ربما لم يكن يكفيه ان يقامر، كان عليه ان يجري في الحلبة إلى جانب الحصان، ليشجعه على الجري اكثر مما فعل في ذلك الميدان،
بقيت صامتاً لفترة وجيزة، لم اتحدث بأي كلمة، ثم بدأت اجمع اشلائي مقررا المغادرة، فبادرتني بالسؤال من الجديد، عما سأفعله، قلت لها كأي فارس مهزوم في معركة، لم تكن معركته، ولكنه اختار ان يخضوها حتى النهاية، سأغادر، بعيدا، لم اخطئ بحق احد، وليس من داعي لأعتذر من احد، انا البائس دائما، لن اكون سببا في بؤس الاخرين، هذا شيء عملت عليه طوال حياتي، هناك دوما سيكون لي حياة جديدة اعيشها اينما ذهبت، لن اقبل ان انشر بؤسي على من احب، ولن يكون هناك اي عذر لي لو فعلت،
يومها رجعت إليك ايتها الجنية الداهية، كنت اخشى نظرات الشماتة في عينيك، لكني يومها رأيت قلبك يعكس رأفة بحالتي على وجهك، ولكنه لم يكن اقل برودة من وجه دعد، لم يكن هناك تردد في نظراتك، كنت تعرفين نهايات الامور، يومها صرخت بوجهك، قلت لك كان الدرس صعبا، كان يمكن ان تخبريني عنه، دون ان امر في تلك ا لتجربة المذلة، الحب الذي لا أمل فيه، مذلة لا يكتوي بنارها غير المحبين، سأرحل بعيدا، سأرحل عنك، ايتها الجنية، وعن كل ما حولي، لا أدري إلى أين سـيأخذني قدري، ولكني اعلم ان هناك ستكون لي حياة جديدة، سيكون من الصعب ان يعبث بها احد، سأتعلم من كل تجاربي ان اعيش حياة اكثر سعادة واقل بؤسا، لن اتوانى عن البحث عن السعادة في ثقوب صخرة بركانية إن وجدتها في طريقي!