Monday, October 8, 2012

--- 14---




تعلمين ايتها الجنية أنك اثبت لي يومها أن ما قمت به من عمل لا يستطيع فعله غير الجن، الجن وحدهم كانوا قادرين على أخذي إلى البحر وإرجاعي من شطه عطشاناً، حتى إنك فعلت اكثر من ذلك، لقد جعلتني ازداد عطشا يوما بعد يوم، وحين اردت ان اشرب من الكأس وجدته مراً، حامضاً، صبراً، ولا أدري اي صفات اخرى أعطيه، لكنه بالتأكيد كان من المستحيل ان أشربه، وإن تجرأت على شربه فهو بالتأكيد لن يروي ظمئي.
يومها اردت ان اخرج من المستشفى بأسرع وقت، ولكن لا أخفيك بأني كنت في حيرة لم أعهدها من قبل في نفسي، ليس من ذهول المفاجأة لكن لأني ولأول مرة اواجه نفسي بأسئلة لم أكن لأسألها من قبل، سؤال مثل "إلى اين سأتوجه؟"، أين ستأخذني قدماي؟، لن يكون هناك مكان اود الذهاب إليه، ولم اكن لأصبر على البقاء في المستشفى، بقيت في سريري بحالة من الوهن جعلت الطبيب يصف لي مجموعة من الفيتامينات والمقويات، طلب مني الراحة لأطول فترة ممكنة، وان اعود لزيارته بعد ان اجري بعض التحاليل، يومها قلت له مازحاً "بالتأكيد سأعود ولكن هل سأجد حينها لديك علاجا لمرض الحب ايها الطبيب؟"،  ضحك بدوره واجابني بأنه لن يكون هناك دواء للحب، حتى يثبت ان الحب هو داء يحتاج لدواء، وأضاف بأن الحب هو بحد ذاته علاج للنفوس المريضة، وقد يكون الحب أفضل دواء في بعض حالات لمن لم يشف مرضهم أي دواء اخر،
فاجأني رد الطبيب، واخذني بعيدا في التفكير، في قضية لم اكن لأنتبه لها من قبل، إنه الحب، داء ام دواء؟، نعمة ام نقمة؟، كيف كنت سأعرف ايهما بينما أنا ملقى في غرفة مليئة برائحة الكحول، والدواء،  كنت بحاجة لهواء نقي، اشرع معه افكاري وحواسي التي غابت طويلا قبل الصعود إلى المنطقة العليا من دماغي، خروج تلك المشاعر من اللاشعور إلى الشعور هو بحد ذاته تغيير يحتاج لمن يحلله ويشرحه لي، وبالتأكيد لن تكوني انت ايتها الجنية التي أوغلت في صنع تلك العذابات لي، ولم تترك من الشر باباً لم تطرقه لتضعني في تلك الحالة المزرية.
عندما عدت في ذلك المساء إلى المنزل، واكتشفت انك لا تبالين لما انا به من مصاب، اكتشفت ان لك يدا في قصة صبا، واكتشفت  إن وجودك في منزلي هو بحد ذاته اعتراف منك، انك لا تشعرين بالخطر من وجود تلك المرأة في حياتي، وإنها لن تكون نداً لك، كيف لا، وانت وضعت القيد في يدي، وتعلمين اني لن استطيع الفرار إلى امرأة ليس لديها ادنى فكرة عما أصابني ولا تشعر حتى بوجودي.

أكنت ترغبين في ان تتحديني أيتها الجنية؟،  او ان تثبتي لي شيئاً لم اكن أراه؟ كان عليك ان تخترعين حيلة اخرى، حيلة لاتدمر الروح، بل إنها قد دمرتها وفتتها إلى قطع صغيرة، وبدأت تختفي تلك القطع يوما بعد اخر، كانت تختفي كأن عصفورا صغيرا  أعتاد ان يلتقط كل يوم من تلك الفتات ويذهب بها بعيدا، ربما ليطعم صغاره، او ليحتفظ بها لشتاء برده قارص، مسكين ذلك العصفور المخدوع، فهو سيعلم يوما ان تلك الفتات لا تغني من جوع ولا تقي من برد، إنها فتات روحي المشلولة، الممزقة، روح قررت جنية مجنونة ان تعبث بها حد إنها ورطتها في قصة حب يدمــر الـــروح.
بالتأكيد أعترف لك بأنه حب يدمر الروح، تلك عبارة تفي بالتعبير عن حالتي، وتصف روحي العاشقة المشردة في عبث الجنون.


لم تكن صبا مجرد امرأة جميلة بصوت اخاذ، إنها زوجة، وأم لطفلين صغيرين، اكبرهما ولد معاق، لم يكن مصاباً بشلل الأطفال، لكنه كان مريضاً وغير قادر على المشي بدون كرسيه المتحرك، الطفل الصغير كان يبدو شقيا، وكأنه يتحرك بالنيابة عنه وعن أخيه المقعد، وقال لي كل من يعرفهم عن قرب أن سعادة تلك العائلة بادية للعيان، الإيمان يرتسم على محياهم، يؤمنون بأن القدر اختارهم ويمتحنهم، وعلى مايبدو انهم كانوا مقتنعين تماما بأن ذلك لن يزيدهم سوى تعمقا في إيمانهم، وإنه لن يسبب لهم المشاكل بقدر ما سيمدهم بالقوة لمجابهتها.

الإيمان!!، لكم احسدكم ايها المؤمنين، الذين يرون في كل مصائب الدهر امتحانات لعزيمتهم، ويقفون كالأشجار الصلبة في وجه المصائب، دون ان يفكروا بالتراجع او التوقف عن تحديها، أيها المؤمنون، إن لديكم من العزيمة والقوة ما يعجز أعتى الجبابرة ان يحمله بين ضلوعه، ولكم تمنيت ان أعرف مصدر ايمانكم، او من اين تنبع تلك الحالة الروحية التي تبث الاطمئنان في روحكم كما تبث الرئتان الاكسجين في الدم الذي يسري في عروقكم،
لم افكر يوما ايتها الجنية بالإيمان، ولم اعتد ان ابحث عن مصادره وتأثيراته،  ولن أضيع وقتي في فهم تلك القضية المستعصية على الفهم بالنسبة لي، فقد تبين لي في يوم من الايام ان الإيمان يولد في قلوبنا كما تولد الروح، إنه هناك دوما، موجود ولكن قلة من يصلون إليه، أو يدركونه، يضعه الرب بين ثنايا القلب كما يضع باقي بركاته الخالصة لبني البشر، ولكنه لا يخبرنا كيف ولماذا ومتى علينا ان نستعين بتلك العطايا، ويدع لنا حكمة اكتشاف بركاته تلك، ولا ادري إن كان قدر علينا أن نضل الطريق أحياناً كثيرة، ولكنه سرعان ماسيفتح لنا قلبه الواسع لننهل من عطاياه بقدر ما نرغب وعندها سنتعلم إن تلك نعمة علينا ان نقدرها، وأنه دوما سيكون هناك ليقدم لنا العون ويخرجنا من عالم الضلال إلى عالم العطايا الوسيع الرحب، وإن كل ما علينا والحالة تلك هو ان لا نفقد ايماننا مهما كانت الصعاب التي واجهتنا،
كنت تضحكين على كلامي هذا بالتأكيد ياجنيتي، تضحكين على حالي التي انقلبت، فكيف لمن مثلي ان ينطق بكلمات عن الايمان، والطمأنينة، وانا في حالة من اليأس العابث بحياتي، كما تعبث قطة بفأر اصطادته قبل ان تقرر متى تفترسه وتخلصه من عذاباته الأليمة،  وتعلمين كم من الايام والليالي مرت علي قبل ان اقرر ما الذي عليَّ ان افعله لأخرج من حالتي وحيرتي تلك، أنت وضعت صبا في طريقي، جعلتني اقع فريسة حبها، واخترت أن تضع بيني وبينها حواجز، تمنعني أن اقترب منها، او أن أصل بحبي لها إلى غاية أتمناها، او قد أرغب في ان أحققها بوجودها، ألم أقل لك إنه حب يدمر الروح،  لكن في النهاية علي ان اقبل التحدي، أن اقبله كفارس نبيل، لا يقبل الخسارة كما لا يقبل ان يتنازل عن أخلاقه النبيلة التي جعلت منه فارساً، ولن يكون عليه سوى ان يخفي كل تلك المشاعر لتفتك به في وحدته، بينما يلبس قناع الابتسامة في حضور الأخرين، سيكون علي أن اقبل تلك الحالة من التناقض بين نار الحب، ونار النبل، إنه شيء أفتخر به، وافتخر بأني سأكون أكثر نبلاً مما تتخيلين أيتها الجنية، وقد كان هذا تحديا بيننا طالما افتخرت بأني سأنجزه رغم كل الصعاب،

قررت ان كل ما علي ان افعله هو التصرف وكأن شيء لم يكن، وهكذا لم تمضي ايام حتى عدت لأمارس اعمالي الاعتيادية، كنت اذهب إلى الشركة واراقب انجاز المشاريع، اتنقل كالعادة بين المكاتب، اتحدث إلى كل من اقابلهم دون تردد، حاولت ان لا اتجنب المدير حتى لايكون هناك اي تراجع عن تلك الحالة من التجاهل التي قررتها، كادت الخطة ان تنجح، كنت اعود كل مساء إلى المنزل لأخبرك ايتها الجنية، بأني تجاوزتها، وأني قادر على الاستمرار بدون حتى ان افكر بها، وارى في ابتسامتك الشامتة تشكيك في روايتي تلك، لكني كنت اعاندك واعاند نفسي، كنت اضع في داخل عقلي افكار اكثر من أن يكون لي القدرة على التأكد من صحتها على ارض الواقع، فكل تلك المحاولات في التجاهل والاستمرار كأن الحياة مستمرة، كل تلك المكابرة والمعاندة، انهارت، نعم انهارت، ولا بد انك سعدت كثيرا عندما اخبرتك يومها كيف انهارت كل تلك الحالة المتصنعة من القوة الزائفة، فما إن وقعت عيني عليها لمرة ثانية في بهو الشركة، حتى ضاقت انفاسي، وبدأت يداي ترتجفان كمدمن على المخدرات لم يتناول جرعته لأيام طويلة، حاولت جاهدا ان اتمالك نفسي، وأن أحاول تنظيم نفسي المتعثر، أن أعيد التوازن المفقود في كياني، وقفت كصنم لايتحرك، كي لا تكشفني حركاتي، ولكني تحطمت إلى اشلاء بكلمة واحدة نطقتها، كلمة ترحيب قالتها بعد ان مدت يدها لتسلم علي، اصابني الدوار كما في يوم الحفلة، شعرت بقدمي تتهاويان، ونفسي ينقطع، لكن لم اسقط هذه المرة على الارض فاقداً للوعي كما حصل لي في تلك الحفلة، قررت ان انسحب مسرعا قبل ان اسقط، وقبل ان تنهار كمية كبيرة من الدموع من عيني وانا في طريقي إلى المنزل، دموع جعلتك تضحكين كثيرا يومها، تضحكين على حالتي المنهارة كمكنسة تحولت إلى كومة من القش الرث لاينفع معها سوى أن ترمى في حاوية الزبالة،

كانت فشلا ذريعا تلك الخطة، في التجاهل والادعاء، أكان يجب ان أتعلم ان الحب شعور اقوى من أن يخفى أو يدفن، ولا حتى ان يتم تجاهله، لما لم تخبريني ايتها الجنية إنه الحب، إنه تفاعل كيماوي، ستنطلق تفاعلاته ما إن تجتمع أطرافه، وإن الجسد سيكون عبدا صاغراً لتلك التفاعلات الطاغية عليه ولن يرفض لها طلباً، تلك حالة لا يمكن السيطرة عليها، كما التفاعل الكيماوي سيؤدي لانفجار فيما لو منعنا الغازات المنتشرة من تفاعلاته من الانطلاق، سيكون الحب قنبلة تفجر حامله إن لم يسمح لتلك المشاعر في التعبير والانطلاق، ولايطول او يستمر الحب بعدها بل سيخمد بعد حين وسيتحول كما  تتحول التفاعلات الكيماوية إلى رواسب كامدة اللون لن يرغب بها تلميذ انهى اختباراته في درس ممل،!!

--- 15 ---

No comments:

Post a Comment