Monday, October 8, 2012

--- 21 ---




كنت اظن انه سيسهل علي قص تلك الفترة من حياتي، حياتي التي لم تكن ملكي، بل كانت حياتها، ملكها، ولعلي تركتها لهذا الوقت، لأجعل من روايتها استراحة لي، فقد كانت تبدو الافكار متناسقة متسلسلة بشكل رهيب، وكأن تلك السنون مجرد شريط سينمائي يمر سريعاً  امام عيني ، كنت ارى نفسي، ارى تلك الايام، الطرقات، والاشجار، كأني جالس وراء نافذة قطار سريع جداً، أراقب كيف تفلت الايام من بين أصابعي بينما انا في حالة من فقدان السيطرة عليها، لم يكن فيلما عاديا، إنه يشبه ذلك النوع من الافلام الذي تغمض عينيك احيانا لتتفادى رؤية اللحظات البائسة منه، خيبات الأمل، والانكسارات، وتأمل قبل ان تفتحهما ان تكون تلك اللحظة قد مرت دون ان تراها،
من أين ابدأ قصتي تلك،  كم تربكني تلك اللحظات، تشعرني بفقدان التركيز، والتشوش، لدرجة تغيب الصورة  الأن من مخيلتي، اعلم ان هذا طبيعي، فعقلي الباطن يرفض ان يتقبل اني عشت تلك القصة، تلك التنازلات البغيضة، فقد كان يوم دخولنا الجامع في ذلك اليوم الشتائي البارد، حافي القدمين، سائرين على ارضه المليئة ببراز الحمام، الذي يصدر صريراً  كلما دست عليه بقدميّ اللتان بدأت اكرههما من شدة القذارة التي كانت تلتصق بأسفلهما، بينما كنت امسك حذائي بيد وممسكاً بيدها باليد الأخرى، إلى ان أقترب مني احدهم لينهرني ويطلب مني أن أترك يدها، فهذه حركة لاتليق بالجامع كما تبين لي من عبارته التي فهمت منها كلمتي "عيب" و"حرام"!، ولم أفهم كيف قبلت طلبه بسهولة بالغة، لم اعترض، تركت يدها تفلت من يدي دفعة واحدة، فمن يجرء على مناقشة العيب والحرام في صحن الجامع، وفي وقت  كل ما كنت افكر به كمية براز الحمام العالقة بأسفل قدمي التي كنت أخطط لطريقة لبترها كي أتخلص من احساسي المقيت بذلك البراز، ولم اكن اعلم مرارة الاحساس التي ستتركه تلك الزيارة في قلبي وستكون أسوأ مما خلفه البراز الملتصق بقدمي، وفي حين سيسهل غسل الاقدام، تطهيرها، وحتى وضعها بأشد المعقمات الطبية قوة، سيبقى القلب غائراً هناك لا تطاله  منظفات، ولا معقمات، وسيكون عليك ان تتعايش دوما مع تلك المشاعر التي لن تزول ولكنك ستتعلم العيش بوجودها، مدعيا انها اضافت لقلبك بعض المحبة، كما منحت عقلك الحكمة التي كنت تفتقدها، وعليك ان تواجه دوماً ضيق التنفس وصوت ضربات قلبك، كلما سمعت هديل الحمام، ولن تكف عن النظر امامك كي تتفادى تلك البقع اللزجة التي وإن بدت الارض خالية منها، لكنها مرسومة في مخيلتك إلى الابد.

يبدو لي الان اين تبدأ الصعوبة في هذا الجزء، إنه الدين، فأنا بدأت روايتي خالية من الأماكن من الساعات و الفصول، لم يكن هناك ذكر لكل ما يمت بصلة للمكان الذي اعيش فيه، كنت اسعى مطولا للبحث عن الكنه المتين للبشر من حولي، بعيداً  عن ما تلبسهم من ملابس الزمن وتأثيراته، فكنت أسير في تلك الطرق بسلاسة حتى هذه اللحظة، التي كانت ولاشك مفرق طريق قاسي في حياتي، وليس في قصتي هذه فقط، فمنذ ان كنت صغيرا وانا في قرارة نفسي منفصل عن كل ما حولي، جنيتي التي اعطتني الثقة بالانتماء إلى نفسي فقط، كانت قادرة على ان تبث الشعور بالاطمئنان في جوانبي دوما، لم يكن هناك ذلك التوق إلى التمسك بقضايا الزيف التي يعيشها الناس من حولي، ولم أسعى لأحصل على ذلك الشعور بالانتماء المعتمد كلياً على قواعد وسلوكيات الأخرين، أنا حر، وحريتي تكمن في انفصالي عن الأخرين، دون أن ابتعد أو أقترب اكثر مما يجب، هناك كان دوما تلك المسافة الفاصلة بيني وبين الاخر،  بيني وبين نفسي التي كانت تجوب عالماً يصعب ان يتفهمه الاخرين، ولكنها كانت اكثر سعادة مما يظنون، التقوى، والإيمان، كان يكفني ان اتمتع بسعادة الشعور بالاختلاف لأتوقف عن السعي إلى ذلك الزيف الماثل في حياتهم،
تلك كانت حالي، وكنت استطيع ان ابقى على ماهو عليه، لأمد طويل، لولا اني ألتقيتها في ذلك اليوم الشتائي، البارد، وكأن الشتاء وبرودته كانت دوما تخبئ لي مفاجآت لايمكن لي ان أهرب منها، فقد كان الشال الازرق الذي تدفئ به رقبتها الطويلة،  متناسقا مع لون عينيها العسلية، وأحمر الشفاه المائل إلى حمرة قاتمة، كانت بيضاء، بشعر اسود، لا يقل طولها عن طولي، لو تغاضينا عن حذائها بكعبه العالي، يومها لم تسألني عن ديني، لم تطلب مني شهادة ميلادي، كان عليها ان تفعل قبل ان تدعوني للجلوس، كيف لا، وهي كانت تعلم اني وقعت في ذلك الشعور الجميل من الدفء اللذيذ الذي لا نشعر به عادة إلا في حضور جمال يحيط بنا ويعطينا الامل في ان مافي صدرنا قلب يخفق امتنانا للطبيعة وليس مجرد مضخة للدم البارد، لم اتردد في قبول دعوتها للجلوس، فديني لا يمنعني من الجلوس مع الجمال، حين يتشكل في امرأة حباها الله به، كنت يومها في مهمة غريبة، فصديق طلب مني ان ازورها لكي اتوسط له في طلب يدها للزواج وهي كانت ترفض دون اي اسباب، لم تكن الاسباب واضحة بالنسبة لي حتى رأيتها، كانت كفرس اصيل، تبحث عن فارس، عن قائد فتوحات، لم تكن تريد صديقي الذي لم يكد ينهي دراسته الجامعية ويهوم على وجهه باحثا عن عمل يقيه الحاجة للسؤال، لم تكن من ذلك النوع الذي يقبل بالقليل، لكنها لا تعلم ايضا مالذي تريده، كانت تبدو مشوشة الفكر، يومها، تحدثنا كثيرا عن "ثائر"  وهو اسم صديقي المتيم بها، الذي لم يكن له من اسمه نصيب، عن حبه لها، عن حلمه بالارتباط بها، لكنها كانت تحاول ان تبعد الموضوع، "ليس هناك من نصيب!"، قالت تلك الكلمات اكثر من مرة، "الدنيا قسمة ونصيب، لماذا لا يتركني بحالي!!"، بينما كنت اعيد واصر على ان تدع له الفرصة لربما تغير رأيها بينما في قرارة نفسي كنت اشعر بالسعادة كلما ابدت اصرارا على انها ترفض اية فرص، وكلما اشتدت برفضها شعرت بسعادة أكبر، لم يكن ثائر يعرف انه لاشيء يجمعه بهذه الفتاة سوى حظه العاثر، الذي وضعه في امتحان يستحيل عليه تجاوزه.
لم ينتهي اللقاء يومها قبل ان ادعوها لتناول الغداء في احد المطعم، فلم ترفض، وافقت بدون ان تسألني عن طائفتي، عن ديني، عن مذهبي، وقد كان عليها ان تكتشف بعد سنين اني من المغضوب عليهم ولا الضالين، لماذا لم يكن عليها ان تقول لي منذ لقائي الاول بها، انها لاتقبل بان تخرج مع الضالين، مع الخارجين عن طاعة الله، كما تعرف عنهم، هل كان عليها أن تجرني إلى الجامع بعد سنين؟ هل كانت تظن ان الوقوف بين يدي المفتي سيحولني من مسخ مكروه إلى مؤمن يبتهل لله ويشكره على نعمه، فلم يكن ذلك من المتوقع بالنسبة لي، لكني رضخت في حالة من العناد الذاتي ليس لأثبت لها مقدار حبي لها وتعلقي بها، لكن لأثبت لنفسي اني قادر على الحب لدرجة اقبل الخضوع لرغباتها، اقبل الوقوف بين يدي ذلك الشيخ ذو الطلة البهية، بذقنه البيضاء الطويلة،
قل، ورائي، اشهد ان لا إله إلا الله، اشهد ، نعم اشهد، وان محمد عبده ورسوله، نعم، نعم، عبده ورسوله، يا مولانا، حسن ، أذهب الان، ولاتنسى طاعة الله، والمواظبة على الصلاة والصيام، نعم ، نعم الصلاة يامولاي!!،  
قال كلماته تلك، وخرجنا من الجامع، كانت تبكي، وكنت ارتجف من البرد، الذي نخر عظامي من السير حافيا على الارض،  وكل ماكنت افكر به لماذا كان عليها ان تقبل دعوتي للغداء في ذلك اليوم، لماذا لم تقل لي انها لا تتناول الغداء مع الضالين، ألم يكن احسن لها من تلك المعاناة التي خلقتها لنا طوال سنين، ومئات ألاف الآيات القرآنية التي قرأتها قبل النوم لعل الله يهديها في الاستخارات التي لم تتوقف عن اطلاقها يوما بعد اخر،
"مالذي يبكيك الان؟"، لماذا تبكين أليس هذا ما اردته، مني، الم تطلبي مني الانضمام إلى جماعة الذين أمنوا ولا الضالين، واتقو الله، ألم تريني بين يدي الله، اعلن توبتي، اعلن ولائي، أليس هذا ما يدعوك للفرح، فلماذا الحزن والبكاء، لم يكن مشهدي وانا اشهد للشيخ مثيرا للشفقة على ما اظن، ولم يكن مشهدا حزينا، فهل تفسرين لي سبب بكائك؟
كان يراودني شعور غريب في ذلك اليوم، وكأني على قمة جبل، شعرت بالسنين التسعة من حياتي معها قد وصلت إلى قمة ما، اكثر ارتفاع ممكن لشخصين ان يصلا معا إليه، كنت اعلم ان الخطوة التالية ستكون في طريق النزول، فمنذ وافقت معها الذهاب إلى الجامع، كان شيء ما قد انكسر في قلبي، أو لربما ضهر لي تلك الحالة المزرية التي وصلت بها، انكشف لي يومها اني لم اعد ذلك الانسان المعتد بنفسه، الواثق بقدراته على مواجهة الحياة بطريقته الخاصة وليس بطريقة الاخرين، الانسان الذي لم يلجأ يوما إلى اساليب الاخرين في الحياة، كان يعيش لأنه يعرف كيف يعيش، ليس لأن اخرين قد اعطوه الخطوات التي يتوجب عليه ان يخطوها في طريقه، كانت تلك اشياء تكسرت يومها في داخلي، كنت اقف على قمة وانا بكل جاهزية لأن ابد النزول، ان اتراجع، كان قد بدا لي طريق النزول من تلك القمة، اكثر وضوحا من قبل، فالقمم في النهاية هي الاماكن التي نرى منها الاماكن القاع، الاماكن التي سنعود  إليها بعد الخطوة التالية، فلا مكان بعد القمة سوى الهبوط، ذلك يوم من ايام القمم في حياتي،  الذي كنت اظن اني سأسرع في النزول عنه مع كل تلك المرارة التي كانت تصيبني من الوصول إليه، لم يخطر في بالي أني سأرمي بنفسي من تلك القمة، سأتهاوى بسرعة، متحطما متناثرا، كصخرة تم دفعها بقوة، كانت تلك حالتي حين نظرت إليها لأفهم سبب بكائها، الذي تحول إلى نحيب، ونجيش، لماذا لا تتوقفين عن البكاء وتخبريني مالذي يجول في خاطرك الان، ارجوك ان تقولي؟
"لم تقنعني كلماتك!! لقد كنت تكذب!!"
اي حماقة تلك الكلمات التي سمعتها، نعم كنت اكذب، هل كنتي تتوقعين ان تغيرني لحظة بين يدي شيخ جليل، هل كنتي تتوقعين ان اخر خاشعا، مقبلا يدي الشيخ لقبوله توبتي على يديه، اي مغفل يعرف ان هذه لحظات لاتولد من فراغ، لا يتوب المرء إن لم يكن مقتنعا انه مذنب، انت تعلمين ان الذنب الوحيد الذي اقترفته انني احببتك، وكم اود ان اتوب عنه، واتوب إلى نفسي، استغفر حالي من ذنب اقترفته بحقها، قبل ان اتوب إلى رب انت تظنين انه علي ان اكون صادقا معه، لأصدق مع نفسي اولا، كان علي أن أكون صادقا وأن لا اذهب معك في تلك المهاترة، من قال ان الصلاة خمسة مرات تصنع الإيمان، وانت تعلمين إني لن اصلي لمجرد ارضائك، لن اصلي من اجل احد، إن من يصلي للأخرين لن يرضيهم ولن يرضي ربه، إن على من يتوجه إلى الله ان ينظر إلى عمق العلاقة مع الخالق، ان يتبرأ من قوانين الاخرين الملزمة للإيمان، ويبدأ صلاته الخالصة بينه وبين ربه، على اي طريقة كانت، طالما هي تقربه من الله وتمنحه الشعور بأنه بين يدي خالقه،،
نعم لقد كنت اكذب عليك وعلى نفسي، لن اكون يوما  المؤمن الذي تبحثين عنه، ربما سأكون احمق ساذج لو استمريت بهذه المسرحة الهزيلة،  قد يدخل الجنة ليس لأيمانه بل لأنه احمق، خال من العقل، ومثل هؤلاء كما سمعت منك يدخلهم ربهم إلى جناته بدون عقاب، ولن ارضى وانت تعرفين ان ادخل الجنة لأني معتوه، مجنون، ربما اقبل بجنتك تلك، لو منحتني الفرصة لأثبت لك ان الايمان في قلبي اقوى مما تعرفين، وأني تخليت عن ايماني الحقيقي لأجل ايمانك الافتراضي فقط لأني احببتك، الحب الذي رغم كل شيء لم اندم عليه، ولن اندم لأني قتمت حياتي، واخترت السير في طريق انتهى بي إلى القفز من تلك القمة في ذلك اليوم، لأهوي محطما مكسرا، لايملك من الحياة سوى امل واحد ان تعود إليه جنيته التي طالما كانت الشفاء لروحه، والامان لقلبه، كما كانت دوما هي السر الذي يبقيه قويا متمسكا بالحياة، 

---- 22 ----

No comments:

Post a Comment