Monday, October 8, 2012

--- 18 ---



إلى أين سأغادر، إلى أي دولة او مدينة سأذهب، هل تسألون ذلك السؤال،  لا ادري ما الفرق بين المدن في قصتي هذه، لم يكن المكان مهما منذ البداية، لم اخبركم اين تجري هذه الاحداث، فما همكم اين سأذهب، ما اسم المدينة، ما اسم الدولة، ما اسم القارة التي سأجمع بها خيباتي التي احملها معي كجمل لايقدر أن يتخلى عن سنامه وإن كان تعب من حمله وناء تحت ثقله، لست من هواة سرد تفاصيل الاماكن التي اعيش بها، ولا انتمي لأي مكان، كما لا تشدني المناظر الطبيعية لوصفها وتشريح الجمال بين ثناياها و لا الاستمتاع بأشعة الشمس المنعكسة عن حبات الندى المتقطرة من بين اوراق النباتات الربيعية الغضة، الطرقات لها هدف واحد دوما في قاموسي، هي طريق يقودنا من مكان إلى أخر، لا معنى للأشجار على طرفي الطريق، لا هدف من الجسور فوق الانهار سوى العبور إلى الضفة الاخرى وسيكون من العبث محاولة خلق اي حالة شاعرية من كل تلك النسمات التي تعبث بوجهك المعرض دوما لها حين تكون قد عزمت السير بعكس اتجاه الريح، تلك قضية عانيت منها بقدر ما كانت تشعرني بالسعادة، فالكل يتحدث عن جمال الطبيعة من حولك، عن الامواج التي تغسل اقدامهم حين يقفون على شاطئ البحر الرملي، ينظرون إلى طيور النورس تحلق فوق سفن تقترب من المرافئ بتناغم ساحر، عانيت لأني لا أعرف كيف اصف تلك الحالة ولم اكن لأستمتع بوصفها، يمكن لك ان تحدثني ايام طوال عن صوت الصدى في الجبال ولون اشعة الشمس المنعكسة عن سطح بحيرة تجمدت في يوم مشمس من الشتاء، وانا كلي ثقة بأنك لن تحرك بداخلي اي شعور بالجمال أو بالتناغم الساحر للطبيعة، وهنا كانت اول معاناتي مع المرأة، فالمرأة كالطبيعة، تريد دوما من يلتفت إلى الجمال في ثناياها، في حركاتها، في لباسها، في تحرك اطرافها، تريد منك دوما ان تدوس على الطرقات التي تفتحها امامك وانت مصاب بحالة من الذهول لجمال تلك الطرقات وان لا تتوانى من  قطف الازهار البرية التي تصادفك في دربك لتقدمها لها اعترافا منك بجمال الحالة التي أصابتك وانت في الطريق إليها، أن تترك للمطر ان يبللكما وان تحضنها بحثا عن الدفء، وستضمك بدورها على أن تهمس بأذنها عن جمال اللحظة وإن ارتعدت اطرافك من البرد وأمتلئ حذائك بالوحل الذي يعيق حركتك، المرأة لاتفهم سوى لغة الجمال، الاشياء فوق الحسية، عالم من الوهم هو ما يكون عليك ان تبنيه دوما لترضي انوثتها، وتغذي به روحها المتعطشة للشرب من تلك اللحظات اللانهائية من وصف الأشياء، والبحث عن الجمال في اشياء وإن تكن بعيدة عنها في الحقيقة!! وانا كما أنا ذلك الشخص الواقعي لدرجة تشبه صخور الجبال الشامخة، لا تهزها ريح ولا يخترقها مطر، صخور شامتة لا ترضى الخضوع لأحد، قد يعجب بها بعضهم لفترة لكنهم سرعان ما يملون من النظر إليها ويملون من ثبات حالتها الساكنة المتبلدة مع مرور الزمن، 

قد تكونين ايتها الجنية سبب في انعدام الاحساس بالجمال والطبيعة في شخصيتي، ولكن لا اريد ان احملك ذنب انا لست متأكدا منه، فلم اعرف في حياتي غير تلك الحالة، لم يمر علي أيام كنت فيها شاعرا رومانسيا، او انسان تلهمه الطبيعة او الجمال بأفكار خلاقة، فيكف اعرف لو كان في داخلي ذلك الانسان، ربما كنت تعرفين ايتها الجنية اكثر مني أن لايمكن لأنسان مثل ذلك أن يختفي لو كان موجود اصلا، لكن كل هذا لايفيد الان، ولن يتغير شيء،  فأنا كما أنا، ولم يكن المنزل الريفي الذي انتقلت إليه بعدما وعدت دعد بأني سأغادر يعني لي اكثر من منفى بعيد، بعيد إلى درجة أنهم لن يروني ثانية ولكن لا اظنه بعيدا بما يكفي لكي انسى او اتخلى عن مشاعري التي اكتويت بها حبا بصبّا، او رغبة في الاقتراب من دعد، لكنها كلمة وعدت وكان ذلك هو الطريق الوحيد الذي كنت وعدت بأن أسير عليه، وقد فعلت؛
مرت ايام قليلة وانا في ذلك المنزل لا اغادره، كنت وحيداً، في المنزل الخالي إلا من مدبرة للمنزل، الموجودة فيه منذ زمن بعيد، وقد اشترط صاحب المنزل ان تبقى في المنزل وان ادفع لها اجرتها ايضا، اعتقد انه ارادها لكي تبقى تعتني بمنزله في غيابه، وقد كانت تلك فكرة جيدة، بالنسبة لي، فلا بأس بوجود من يعتني بذلك المنزل وبي، وقد كان لوجودها معنى اخر عندما اكتشفت كم هي لذيذة شرائح اللحم التي تعدها  مع قليل من دبس الرمان اللاذع، كانت تجيد اضافة نكهات مختلفة للطعام بطريقة غريبة، فقد كانت تستطيع ان تعد نفس الطبق ولكن في كل مرة تكتشف فيه نكهة جديدة،  كانت قليلة الكلام، وتلك صفة بدأت لا احبها، في النساء، كيف يقولون ان النساء يتمتعن بالثرثرة، كيف يلصقون بهم تلك الصفة بينما لا تعترض طريقي في هذه الحياة سوى النساء الصامتات، هل يكون السبب في شخصيتي، هل اكون انا سبب انهن لايتحدثن امامي، ام لعل هناك سر لا أعرفه، لعلك ايتها الجنية اللعنة كنت اول امرأة صامتة في حياتي، واصبت بلعنتك واصبحت كل النساء في حياتي صامتات حتى وإن تمتعن بالمقدرة على الكلام!! 
الجنية اللعنة!! نعم نسيت ان اخبركم أنني وجدتها قد سبقتني إلى ذلك المنزل، لا اعرف كيف يتنقل الجن، ولكن بالتأكيد كان لديها وسيلة اسرع من الطائرة التي نقلتني إلى تلك الاصقاع البعيدة، كانت تجلس في غرفتي منتظرة دخولي وكأني عائد من معركة شرسة، بالطبع كنت اتوقع ان اجدها، ولم أتفاجئ، لم تعد تفاجئيني ايتها الجنية، هل سمعت هذه الكلمة؟، لقد بدأت اتحرر من هول مفاجأتك، ومن الرهبة من قدراتك الخارقة، اصبحت جزئا مكملا لما أمر به في حياتي يوما بعد أخر، لم يكن هناك ما يمنع وجودك، كما لم يكن هناك ما يستوجب مغادرتك، كأنك جزء من الكون المحيط بي، كصورة احملها في محفظتي، او لنقل كأيقونة احملها في سلسلة حول عنقي، لاتفارقيني ولا افارقك، 
في ذلك المنزل كانت تمر الساعات بطيئة مثقلة بالكأبة، لاشيء يتحرك، سوى صوت اوراق الشجر المتساقط مع اول الخريف، كان في المنزل مدفأة حجرية يصدر عنها صوت احتراق الجمر في الليل بطريقة تشعرك بالدفء، كنت احب ان اجلس بجانب تلك المدفأة اقرأ اي من الكتب القديمة التي وجدتها في المنزل، وكنت اغفو هناك في كثير من الاحيان، وكان مدبرة المنزل تقوم بوضع غطاء من الصوف جسدي النائم على ذلك الكرسي امام المدفئة، 
كنت اظن ان الايام ستستمر على حالتها البطيئة تلك، حتى استفقت في احد الايام من قيلولة كنت اخذتها امام تلك المدفأة بينما كان لايزال الكتاب الذي كنت اقرأه بين يدي، استفقت لأرى مدبرة المنزل واقفة هناك على باب الغرفة تنظر إلي نظرة متبصرة، نظرت حولي لأرى إن كان هناك شيء ما غيري تنظر إليه، فلم اجد شيئا، فسألتها لماذا تنظر إلي بتلك النظرة، فأحسست وكأنها استفاقت من افكار عميقة كانت تدور في رأسها، لاشيء، لاشيء، ردت على سؤالي وانصرفت، مرت عدة ايام وهي على تلك الحالة من الاستكانة والتفكير، في نظراتها كان الكثير من الكلام، لكنها كانت لا تصرح ما يدور في رأسها، حتى أتاني صاحب المنزل في يوم من الايام وطلب مني مغادرة المنزل، قال لي ان هذا المنزل مهم جدا له، وأنه يعيش على المبلغ الذي يحصل عليه من أجار هذا المنزل!! 
ولكني أدفع لك كل ما تطلبه مني، فلماذا اغادر المنزل، كان سؤالي له، بينما هو يتلفت حوله وينظر في ارجاء المنزل، ليست القضية قضية فلوس، رد علي، لكن هناك اشاعات، اشاعات، انك احضرت معك روحا، وان البيت مسكون بالأرواح منذ قدومك!! سمعت كلماته تلك وانا انظر حولي ايضا، كيف علموا بقصة جنيتي، من اخبرهم،  انا لم اخبر احدا!!
طلبت منه ان يعطني فرصة لأجد منزلا بديلا، وان عليه ان يكون اكثر تعقلا، فلا يوجد ما يسمى بالأرواح والجن، تلك اساطير لا صحة لها، قلت له تلك الكلمات وانا اضحك في نفسي، كيف أحاول أن اقنعه بشيء مثل ذلك!!، وافق على مضض، وقرر السماح لي بالبقاء بضعة ايام لنهاية الشهر، على ان اجد منزلا اخر وانتقل إليه، ولكنه نصحني ان ابحث عن مكان بعيد، لأن اهل المنطقة هناك اصبحوا يعرفون بقصة الارواح تلك،     
في المساء طلبت من مدبرة المنزل ان تحضر لي شيئا ساخنا اشربه، وعندما حضرت ، طلبت منها الجلوس، وطلبت منها ان تخبرني كيف انتشرت تلك الشائعة في المنطقة كلها؟؟
"ليست شائعة، لقد رأيتها!!"، قالت تلك الكلمات دون اي تردد، وأضافت: "إنها موجودة طوال الوقت ولاتفارقك!!: 
سمعت كلماتها تلك وانا اشعر بأن احدهم قد نزع ثيابي عني، عراني، كنت احاول ان اختبئ من كلماتها ولكني عجزت، كيف استطاعت هذه المرأة ان تكتشف جنيتي، كيف علمت بوجودها، كيف رأتها، لا أعرف، لكني طلبت منها ان تشرح لي ما تعرفه، لكنها نظرت إلي نظرة استهجان، مستاءة من محاولة نكراني لشيء قد صرحت فيه كأنه حقيقة واضحة لاداعي لنكرانها، عرفت حينها ان هناك شيء غريب، 
"أنا استطيع ان أراهم، إن كان موجودين، في مكان ما اشعر بوجودهم، تلك نقمة اكتشفتها في نفسي منذ الصغر" قالت تلك الكلمات وانهتها بتنهيدة طويلة، واكملت كلامها: "أعرف انك مستاء من اكتشافي هذا، وكان يمكن ان يبقى الامر سرا، لكني لا احب ان  يوجدوا فيما حولي، أعلم ان جنيتك لا تؤذي احدا، لكني لا احب وجودها، لا اتقبل فكرة ان اكون موجودة في مكان واحد معهم!!"
بقدر ما ازعجني اكتشاف المدبرة لك ايتها الجنية بقدر ما اعطاني بعدا جديداً لوجودك في حياتي، فمنذ تلك اللحظة اصبحت أعرف أنك شيئا محسوسا، انك اكثر من طيف وأن هناك من يمكنه ان يشعر بوجودك ايضا، لا ادري سر فرحي بذلك الاكتشاف، ولكني اعلم اني يومها انطلقت سريعا اجمع اشيائي مقررا العودة للمكان الذي غادرته، لموطني الاول، منزلي الذي عشت فيه معك سنين طويلة، شعرت من جديد بأهمية انك ستكونين دوما معي ولا داعي ان يكون هناك شيء اخر في حياتي من جديد، انا وانت فقط ايتها  الجنية، سنكون في احسن حال!!




No comments:

Post a Comment